نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2901
«كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ» ..
وذكروا بالنعمة. نعمة البلد الطيب وفوقها نعمة الغفران على القصور من الشكر والتجاوز عن السيئات.
«بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ» ..
سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء. وسماحة في السماء بالعفو والغفران. فماذا يقعدهم عن الحمد والشكران؟
ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا:
«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ: خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ» ..
أعرضوا عن شكر الله، وعن العمل الصالح، والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت. وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة:
«وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ: خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ» ..
والخمط شجر الأراك أو كل شجر ذي شوك. والأثل شجر يشبه الطرفاء. والسدر النبق. وهو أجود ما صار لهم ولم يعد لهم منه إلا قليل! «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا» ..
والأرجح أنه كفران النعمة..
«وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» ..
وكانوا إلى هذا الوقت ما يزالون في قراهم وبيوتهم. ضيق الله عليهم في الرزق، وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة ولكنه لم يمزقهم ولم يفرقهم. وكان العمران ما يزال متصلا بينهم وبين القرى المباركة: مكة في الجزيرة، وبيت المقدس في الشام. فقد كانت اليمن ما تزال عامرة في شمال بلاد سبأ ومتصلة بالقرى المباركة. والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك مأمون:
«وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً، وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ. سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ» ..
وقيل كان المسافر يخرج من قرية فيدخل الأخرى قبل دخول الظلام. فكان السفر فيها محدود المسافات، مأمونا على المسافرين. كما كانت الراحة موفورة لتقارب المنازل وتقارب المحطات في الطريق.
وغلبت الشقوة على سبأ، فلم ينفعهم النذير الأول ولم يوجههم إلى التضرع إلى الله، لعله يرد عليهم ما ذهب من الرخاء. بل دعوا دعوة الحمق والجهل:
«فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» ..
تطلبوا الأسفار البعيدة المدى التي لا تقع إلا مرات متباعدة على مدار العام. لا تلك السفرات القصيرة المتداخلة المنازل، التي لا تشبع لذة الرحلات! وكان هذا من بطر القلب وظلم النفس:
«وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» ..
واستجيبت دعوتهم، ولكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر:
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2901