نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2893
ومن ثم يقولون قولتهم هذه: «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» .. فيرد عليهم مؤكدا جازما: «قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» ..
وصدق الله تعالى وصدق رسول الله- عليه صلوات الله- وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله، ويجزمون بما لا علم لهم به. والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو: «عالِمِ الْغَيْبِ» .. فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين.
ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة، تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر، لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور:
«لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
ومرة أخرى نقول: إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية. وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء. فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة: «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ ... »
.. ولست أعرف في كلام البشر اتجاها إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل. فهو الله، سبحانه، الذي يصف نفسه، ويصف علمه، بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال.
وأقرب تفسير لقوله تعالى: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» أنه علم الله الذي يقيد كل شيء، ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
ونقف أمام لفتة في قوله تعالى: «مِثْقالُ ذَرَّةٍ.. وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ» . والذرة كان معروفا- إلى عهد قريب- أنها أصغر الأجسام. فالآن يعرف البشر- بعد تحطيم الذرة- أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عند ما يشاء.
مجيء الساعة حتما وجزما، وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» ..
فهناك حكمة وقصد وتدبير. وهناك تقدير في الخلق لتحقيق الجزاء الحق للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وللذين سعوا في آيات الله معاجزين..
فأما الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح فلهم «مَغْفِرَةٌ» لما يقع منهم من خطايا ولهم «رِزْقٌ كَرِيمٌ» والرزق يجيء ذكره كثيرا في هذه السورة، فناسب أن يعبر عن نعيم الآخرة بهذا الوصف، وهو رزق من رزق الله على كل حال.
وأما الذين سعوا باذلين جهدهم للصد عن آيات الله، فلهم عذاب من أليم العذاب وسيئه. والرجز هو العذاب السيّء. جزاء اجتهادهم ومعاجزتهم وكدهم في سبيل السوء! وبهذا وذلك تتحقق حكمة الله وتدبيره، وحكمة الساعة التي يجزمون بأنها لا تأتيهم وهي لا بد أن تجيء..
وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم- وهي غيب من غيب الله- وتأكيد الله لمجيئها- وهو عالم الغيب-
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2893