نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2856
تبعدهم عن محيطنا، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر. يأسا من إمكان التشبه بهم أو الاقتداء العملي في الحياة الواقعية. وتفقد السيرة بذلك أهم عنصر محرك، وهو استجاشة مشاعرنا للأسوة والتقليد. وتحل محلها الروعة والانبهار، اللذان لا ينتجان إلا شعورا مبهما غامضا سحريا ليس له أثر عملي في حياتنا الواقعية..
ثم نفقد كذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة. لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون، عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن. ولكنهم هم ارتقوا بها وصفوها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا.
وحكمة الله واضحة في أن يختار رسله من البشر، لا من الملائكة ولا من أي خلق آخر غير البشر. كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم، وإن صفت ورفت وارتقت. فيحبوهم حب الإنسان للإنسان ويطمعوا في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير.
وفي حادث التخيير نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في المتاع كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- ونسائه- رضي الله عنهن- وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة! فيؤذيه هذا، ولكنه لا يقبل من أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- أن يضربا عائشة وحفصة على هذه المراجعة. فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية، تصفى وترفع، ولكنها لا تخمد ولا تكبت! ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه. فيخترن الله ورسوله والدار الآخرة، اختيارا لا إكراه فيه ولا كبت ولا ضغط فيفرح قلب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء.
ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة في قلب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو يحب عائشة حبا ظاهرا ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له ولأهل بيته فيبدأ بها في التخيير ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها- وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت- وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي- صلّى الله عليه وسلّم- لا تخطئ عائشة- رضي الله عنها- من جانبها في إدراكها فتسرها وتحفل بتسجيلها في حديثها. ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي- صلّى الله عليه وسلّم- إنسانا يحب زوجه الصغيرة، فيحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه وتبقى معه على هذا الأفق، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه، والتي يريدها له ربه ولأهل بيته. كذلك تبدو عائشة- رضي الله عنها- إنسانة يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها فتسجل بفرح حرصه عليها، وحبه لها، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء. ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن! وما في هذا الطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار، وميزتها على بقية نسائه، أو على بعضهن في هذا المقام! .. وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو يقول لها: «إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني واحدة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» .. فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير بل يقدم العون لكل من تريد العون. كي ترتفع على نفسها، وتتخلص من جواذب الأرض ومغريات المتاع! هذه الملامح البشرية العزيزة ينبغي لنا- ونحن نعرض السيرة- ألا نطمسها، وألا نهملها، وألا نقلل من
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2856