نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2854
ويختار.. ولم يكن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- مكلفا من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفوا بلا تكلف، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقا، لا جريا وراءها ولا تشهيا لها، ولا انغماسا فيها ولا انشغالا بها.. ولم يكلف أمته كذلك أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه، إلا أن يختارها من يريد، استعلاء على اللذائذ والمتاع، وانطلاقا من ثقلتها إلى حيث الحرية التامة من رغبات النفس وميولها.
ولكن نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- كن نساء، من البشر، لهن مشاعر البشر. وعلى فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن. فلما أن رأين السعة والرخاء بعد ما أفاض الله على رسوله وعلى المؤمنين راجعن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في أمر النفقة.
فلم يستقبل هذه المراجعة بالترحيب، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضى إذ كانت نفسه- صلّى الله عليه وسلّم- ترغب في أن تعيش فيما اختاره لها من طلاقه وارتفاع ورضى متجردة من الانشغال بمثل ذلك الأمر والاحتفال به أدنى احتفال وأن تظل حياته وحياة من يلوذون به على ذلك الأفق السامي الوضيء المبرأ من كل ظل لهذه الدنيا وأوشابها. لا بوصفه حلالا وحراما- فقد تبين الحلال والحرام- ولكن من ناحية التحرر والانطلاق والفكاك من هواتف هذه الأرض الرخيصة! ولقد بلغ الأسى برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- من مطالبة نسائه له بالنفقة أن احتجب عن أصحابه.
وكان احتجابه عنهم أمرا صعبا عليهم يهون كل شيء دونه. وجاءوا فلم يؤذن لهم. روى الإمام أحمد- بإسناده عن جابر- رضي الله عنه- قال: أقبل أبو بكر- رضي الله عنه- يستأذن على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- والناس ببابه جلوس، والنبي- صلّى الله عليه وسلّم- جالس، فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر- رضي الله عنه- فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- فدخلا، والنبي- صلّى الله عليه وسلّم- جالس وحوله نساؤه، وهو- صلّى الله عليه وسلّم- ساكت. فقال عمر- رضي الله عنه-: لأكلمن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- لعله يضحك. فقال عمر- رضي الله عنه- يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها! فضحك النبي- صلّى الله عليه وسلّم- حتى بدت نواجذه، وقال: «هن حولي يسألنني النفقة» ! فقام أبو بكر- رضي الله عنه- إلى عائشة ليضربها، وقام عمر- رضي الله عنه- إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي- صلّى الله عليه وسلّم- ما ليس عنده؟! فنهاهما الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فقلن: والله لا نسأل رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بعد هذا المجلس ما ليس عنده.. قال: وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة- رضي الله عنها- فقال: «إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) ..
الآية. قالت عائشة- رضي الله عنها-: أفيك استأمر أبويّ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله. وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال- صلّى الله عليه وسلّم- «إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني امرأت منهن عما اخترت إلا أخبرتها [1] » .
وفي رواية البخاري- بإسناده- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- أخبرته أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير [1] وأخرجه مسلم من حديث زكريا بن إسحاق. [.....]
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2854