نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2844
«هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .. هذا الهول، وهذا الكرب، وهذه الزلزلة، وهذا الضيق. وعدنا عليه النصر.. فلا بد أن يجيء النصر: «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .. صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها.. ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله: «وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» ..
لقد كانوا ناسا من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعف البشر. وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ولا أن يخرجوا من اطار هذا الجنس ويفقدوا خصائصه ومميزاته.
فلهذا خلقهم الله. خلقهم ليبقوا بشرا، ولا يتحولوا جنسا آخر. لا ملائكة ولا شياطين، ولا بهيمة ولا حجرا..
كانوا ناسا من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة. ولكنهم كانوا- مع هذا- مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.. وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير.
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور. علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا، لم يتخلوا عن طبيعة البشر، بما فيها من قوة وضعف. وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء.
وحين نرانا ضعفنا مرة، أو زلزلنا مرة، أو فزعنا مرة، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق..
فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا! هنالك العروة الوثقى. عروة السماء. وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر. فنثبت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق..
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه:
«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» ..
هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه. نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار. ثم ولم يوفوا بعهد الله: «وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» ..
روى الإمام أحمد- بإسناده- عن ثابت قال: «عمي أنس بن النضر- رضي الله عنه- سميت به- لم يشهد مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يوم بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- غبت عنه! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يوم أحد. فاستقبل سعد بن معاذ- رضي الله عنه- فقال له أنس- رضي الله عنه- يا أبا عمرو. أين واها لريح الجنة! إني أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل- رضي الله عنه- قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته- عمتي الرّبّيع ابنة النضر-: فما عرفت أخي إلا ببنانه. قال:
فنزلت هذه الآية: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.. إلخ» قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضى الله عنهم. (ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة) .
وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان، في مقابل صورة النفاق
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2844