نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2812
وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رؤوسهم. هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول. ومن ثم يقال لهم:
«فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» ..
يومكم هذا الحاضر. فنحن في المشهد في اليوم الآخر.. ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت. ذوقوا «إِنَّا نَسِيناكُمْ» .. والله لا ينسى أحدا. ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء.
«وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
ويسدل الستار على المشهد. وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه. وترك المجرمون لمصيرهم المهين. ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك، وكأنهم شاخصون حيث تركهم! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب.
يسدل الستار على ذلك المشهد ليرفعه عن مشهد آخر، في ظل آخر، له عطر آخر تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب. إنه مشهد المؤمنين. مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله، طامعة راجية في فضل الله. وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال:
«إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة، اللطيفة، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء، في غير ما استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير.
هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم «خَرُّوا سُجَّداً» تأثرا بما ذكروا به، وتعظيما لله الذي ذكروا بآياته، وشعورا بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل، تعبيرا عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب «وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» . مع حركة الجسد بالسجود. «وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» .. فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال.
ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة. في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب:
«تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً» ..
إنهم يقومون لصلاة الليل. صلاة العشاء الآخرة. الوتر. ويتهجدون بالصلاة، ودعاء الله. ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ»
.. فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام. ولكن هذه الجنوب لا تستجيب. وإن كانت تبذل جهدا في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة. لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ. شغلا بربها. شغلا بالوقوف في حضرته. وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء. الخوف من عذاب الله
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2812