نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2811
تتكرر في كل لحظة، وتقع أمام الأنظار والأسماع. في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة، وشكهم في البعث والنشور. فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة:
«وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» ..
إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقا جديدا، بعد موتهم ودفنهم، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض، ويختلط بذراتها، ويضل فيها، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى؟ لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين. من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها. فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى، وليس فيها غريب ولا جديد! «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» .. ومن ثم يقولون ما يقولون. فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة.
لذلك يرد على اعتراضهم بتقرير وفاتهم ورجعتهم، مكتفيا بالبرهان الحي الماثل في نشأتهم الأولى ولا زيادة:
«قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» ..
هكذا في صورة الخبر اليقين.. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب الله، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد.
وبمناسبة البعث الذي يعترضون عليه والرجعة التي يشكون فيها، يقفهم وجها لوجه أمام مشهد من مشاهد القيامة مشهد حي شاخص حافل بالتأثرات والحركات والحوار كأنه واقع مشهود:
«وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ- وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ- فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، إِنَّا نَسِيناكُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى.. وهم ناكسو رؤوسهم خجلا وخزيا.. «عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا.. ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان.
وقبل أن يعلن السياق جواب استخذائهم الذليل، يقرر الحقيقة التي تتحكم في الموقف كله وتتحكم قبل ذلك في حياة الناس ومصائرهم:
«وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ..
ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقا واحدا. هو طريق الهدى، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة، يملك معها الهدى والضلال ويختار الهداية أو يحيد عنها ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2811