نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2723
والرعاية، لا الطاعة ولا الاتباع. وإن هي إلا الحياة الدنيا ثم يعود الجميع إلى الله.
«إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
ويفصل ما بين المؤمنين والمشركين. فإذا المؤمنون أهل ورفاق، ولو لم يعقد بينهم نسب ولا صهر:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» ..
وهكذا يعود الموصولون بالله جماعة واحدة، كما هم في الحقيقة وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر، وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا، فهي روابط عارضة لا أصيلة، لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
روى الترمذي عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- وأمه حمنة بنت أبي سفيان، وكان بارا بأمه. فقالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه. ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي. فلما أيست منه أكلت وشربت. فأنزل الله هذه الآية آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك.
وهكذا انتصر الإيمان على فتنة القرابة والرحم واستبقي الإحسان والبر. وإن المؤمن لعرضة لمثل هذه الفتنة في كل آن فليكن بيان الله وفعل سعد هما راية النجاة والأمان.
ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء، ثم الادعاء العريض عند الرخاء. يرسمها في كلمات معدودات، صورة واضحة الملامح بارزة السمات:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ. فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» ..
ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل، هينة المئونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان، «فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ» بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى «جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» فاستقبلها في جزع، واختلت في نفسه القيم، واهتزت في ضميره العقيدة وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه، حتى عذاب الله وقال في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة.
«وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» ! إنا كنا معكم.. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير. ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة، وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المهزومون، فيقولون: «إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» ! «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟» ..
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2723