نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2692
«أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» :
وتلقى موسى النداء المباشر. تلقاه وحيدا في ذلك الوادي العميق، في ذلك الليل الساكن. تلقاه يتجاوب به الكون من حوله، وتمتلئ به السماوات والأرضون. تلقاه لا ندري كيف وبأية جارحة وعن أي طريق.
تلقاه ملء الكون من حوله، وملء كيانه كله. تلقاه وأطاق تلقيه لأنه صنع على عين الله حتى تهيأ لهذه اللحظة الكبرى.
وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي وبوركت البقعة التي تجلى عليها ذو الجلال وتميز الوادي الذي كرّم بهذا التجلي، ووقف موسى في أكرم موقف يلقاه إنسان.
واستطرد النداء العلوي يلقي إلى عبده التكليف:
«وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ» ..
وألقى موسى عصاه إطاعة لأمر مولاه ولكن ماذا؟ إنها لم تعد عصاه التي صاحبها طويلا، والتي يعرفها معرفة اليقين. إنها حية تدب في سرعة، وتتحرك في خفة، وتتلوى كصغار الحيات وهي حية كبرى:
«فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» ..
إنها المفاجأة التي لم يستعد لها مع الطبيعة الانفعالية، التي تأخذها الوهلة الأولى.. «وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» ولم يفكر في العودة إليها ليتبين ماذا بها وليتأمل هذه العجيبة الضخمة. وهذه هي سمة الانفعالين البارزة تتجلى في موعدها! ثم يستمع إلى ربه الأعلى:
«يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ..
إن الخوف والأمن يتعاقبان سريعا على هذه النفس، ويتعاورانها في مراحل حياتها جميعا. إنه جو هذه الحياة من بدئها إلى نهايتها وإن هذا الانفعال الدائم لمقصود في تلك النفس، مقدر في هذه الحياة، لأنه الصفحة المقابلة لتبلد بني إسرائيل، ومرودهم على الاستكانة ذلك الأمد الطويل. وهو تدبير القدرة وتقديرها العميق الدقيق.
«أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ..
وكيف لا يأمن من تنقل يد القدرة خطاه، ومن ترعاه عين الله؟
«اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» ..
وأطاع موسى الأمر، وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره ثم أخرجها. فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة. إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة. إنها إشارة إلى إشراق الحق ووضوح الآية ونصاعة الدليل.
وأدركت موسى طبيعته. فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة. ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة. ذلك أن يضم يده على قلبه، فتخفض من دقاته، وتطامن من خفقاته:
«وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ» .
وكأنما يده جناح يقبضه على صدره، كما يطمئن الطائر فيطبق جناحه. والرفرفة أشبه بالخفقان، والقبض أشبه بالاطمئنان. والتعبير يرسم هذه الصورة على طريقة القرآن.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2692