responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2691
عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور! وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا.. وقلوب أهل القصور- مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة- لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.
فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى- عليه السّلام- أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة وأن تزج به في مجتمع الرعاة، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى، بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع. وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء، وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم.
وأن تلقي به في خضم الحياة كبيرا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرا، ليمون على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها..
فلما أن استكملت نفس موسى- عليه السّلام- تجاربها، وأكملت مرانتها ودربتها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال رسالته وعمله، سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيدا طريدا خائفا يتلفت. فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق؟ إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق. الطريق الذي سيقود فيه موسى خطى قومه بأمر ربه، كي يستكمل صفات الرائد وخبرته، حتى لا يعتمد على غيره ولو في زيادة الطريق. فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة، بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير.
وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله، وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف. فلنتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى، في طريقه إلى هذا التكليف.
«فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً. قالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» ..
ترى أي خاطر راود موسى، فعاد به إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، وقد خرج منها خائفا يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها، وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟
إنها اليد التي تنقل خطاه كلها، لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة، وإلى الوطن والبيئة، وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها ورعي منذ اللحظة الأولى.
على أية حال ها هو ذا عائد في طريقه، ومعه أهله، والوقت ليل، والجو ظلمة وقد ضل الطريق، والليلة شاتية، كما يبدو من أنسه بالنار التي شاهدها، ليأتي منها بخبر أو جذوة.. هذا هو المشهد الأول في هذه الحلقة.
فأما المشهد الثاني فهو المفاجأة الكبرى:
«فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ» ..
فها هو ذا يقصد إلى النار التي آنسها، وها هو ذا في شاطئ الوادي إلى جوار جبل الطور، الوادي إلى يمينه، «فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» .. المباركة، منذ هذه اللحظة.. ثم هذا هو الكون كله تتجاوب جنباته بالنداء العلوي الآتي لموسى «مِنَ الشَّجَرَةِ» ولعلها كانت الوحيدة في هذا المكان:

نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2691
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست