نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2681
وهو آمن قرير. وقد صاغت يد القدرة الحلقة الأولى من تدبيرها العجيب:
«فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ، كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ويسكت سياق القصة بعد هذا عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى- عليه السّلام- والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله. فلا نعلم ماذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه. ولا كيف تربى في قصر فرعون. ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة. ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه بعد أن شب وكبر إلى أن تقع الأحداث التالية في الحلقة الثانية. ولا كيف كانت عقيدته، وهو الذي يصنع على عين الله، ويعد لوظيفته، في وسط عباد فرعون وكهنته..
يسكت سياق القصة عن كل هذا ويبدأ الحلقة الثانية مباشرة حين بلغ أشده واستوى، فقد آتاه الله الحكمة والعلم، وجزاه جزاء المحسنين:
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ..
وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية. والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي. وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين. فهل ظل موسى في قصر فرعون، ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن؟ أم إنه افترق عنهما، واعتزل القصر، ولم تسترح نفسه للحياة في ظل تلك الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة كنفس موسى- عليه السّلام-؟ وبخاصة أن أمه لا بد أن تكون قد عرّفته من هو ومن قومه وما ديانته.
وهو يرى كيف يسام قومه الخسف البشع والظلم الشنيع، والبغي اللئيم وهو يرى أبشع صورة للفساد الشائع الأثيم.
ليس لدينا من دليل. ولكن سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا كما سيجيء والتعقيب على إتيانه الحكمة والعلم: «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» يشي كذلك بأنه أحسن فأحسن الله إليه بالحكمة والعلم:
«وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها، فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» ..
ودخل المدينة.. والمفهوم أنها العاصمة وقتئذ.. فمن أي مكان جاء فدخلها؟ وهل كان من القصر في عين شمس؟ أم إنه كان قد اعتزل القصر والعاصمة، ثم دخل إليها على حين غفلة من أهلها، في وقت الظهيرة مثلا حين تغفو العيون؟
لقد دخل المدينة على كل حال «فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ. هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ. فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ» ..
وقد كان أحدهما قبطيا- يقال إنه من حاشية فرعون، ويقال إنه طباخ القصر. والآخر إسرائيلي. وكانا يقتتلان. فاستغاث الإسرائيلي بموسى مستنجدا به على عدوهما القبطي. فكيف وقع هذا؟ كيف استغاث الإسرائيلي بموسى ربيب فرعون على رجل من رجال فرعون؟ إن هذا لا يقع إذا كان موسى لا يزال في القصر، متبنى، أو من الحاشية. إنما يقع إذا كان الإسرائيلي على ثقة من أن موسى لم يعد متصلا بالقصر، وأنه قد عرف
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2681