نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2635
هبة لدنية منه، بلا محاولة ولا اجتهاد. وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع. وهو خالق هذه الأنواع! على أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان. أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته، وطوع أمره، كجنوده من الإنس سواء بسواء. والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير.
يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم.
وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز..
حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام. وإنها خاضعة- كحلقة مفردة- للناموس العام، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به.
وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم، هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين، منذ أن وجدت الهداهد. وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول. ومهما بلغ التحوير فيه، فهو لا يخرج من نوعه، ليرتقي إلى نوع آخر.. وإن هذا- كما يبدو- طرف من سنة الله في الخلق، ومن الناموس العام المنسق للكون.
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عند ما يريدها الله خالق السنن والنواميس. وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام الذي لا نعرف أطرافه. جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله، يخرق المألوف المعهود للبشر، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام. وهكذا وجد هدهد سليمان، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان.
ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» ..
فهذا هو موكب سليمان محشود محشور. يتألف من الجن والإنس والطير. والإنس معروفون، أما الجن فهم خلق لا نعرف عنهم إلا ما قصه الله علينا من أمرهم في القرآن. وهو أنه خلقهم من مارج من نار. أي من لهيب متموج من النار. وأنهم يرون البشر والبشر لا يرونهم «إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» (الكلام عن إبليس أو الشيطان وإبليس من الجن) وأنهم قادرون على الوسوسة في صدور الناس بالشر عادة والإيحاء لهم بالمعصية- ولا ندري كيف- وأن منهم طائفة آمنت برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ولم يرهم هو أو يعرف منهم إيمانهم ولكن أخبره الله بذلك إخبارا: «قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً..» ونعرف أن الله سخر طائفة منهم لسليمان يبنون له المحاريب والتماثيل والجفان الكبيرة للطعام، ويغوصون له في البحر، ويأتمرون بأمره بإذن الله.
ومنهم هؤلاء الذين يظهرون هنا في موكبه مع إخوانهم من الإنس والطير.
ونقول: إن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من الطير كما سخر له طائفة من الإنس. وكما أنه لم يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان- إذ أن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق إلى ضفة الفرات- فكذلك لم يكن جميع الجن ولا جميع الطير مسخرين له، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2635