responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2562
وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور. وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة. فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء.
والذي يقع غالبا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات، وهم ثابتون على دعوتهم، ماضون في طريقهم، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن.. وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة. وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع! من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق، والنهاية مقدرة من قبل، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله. إنها الهداية إلى الحق، والانتهاء إلى النصر: «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» .
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي. فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية. فساد في القلوب، وفساد في النظم، وفساد في الأوضاع. ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون، الذين ينشئون الفساد من ناحية، ويستغلونه من ناحية. والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء. الذين يجدون فيه سندا للقيم الزائقة التي يستندون هم في وجودهم إليها.. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه. وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن. وكذلك المجرمون.. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق، يستميتون في كفاحها. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية، لأنها تسير مع خط الحياة، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله..
«وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» ..
ثم يمضي في استعراض مقولات المجرمين الذين يقفون في وجه دعوة القرآن، والرد عليها:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» ..
ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، وينشىء مجتمعا، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا. وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذا بها.
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها. وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها. فجاء لذلك منجما وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة، وهي في طريق نشأتها ونموها، ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق. جاء ليكون منهج

نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2562
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست