نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2561
واقعا مشهودا، وهم بعد في هذه الأرض، يكذبون بلقاء الله، ويتطاولون على مقامه دون توقير، ويقترحون الاقتراحات المستهترة والهول المرعب ينتظرهم هناك والندم الفاجع بعد فوات الأوان.
وبعد هذه الجولة في اليوم العسير يعود بهم إلى الأرض يستعرض موقفهم مع الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- واعتراضاتهم على طريقة تنزيل القرآن. ثم ينهي هذه الجولة بمشهدهم كذلك يوم الحشر والنشور:
«وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا» ..
لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم. ويبصرهم. هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردا. وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدي على نوره. وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق:
«وَقالَ الرَّسُولُ: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» ..
وإن ربه ليعلم ولكنه دعاء البث والإنابة، يشهد به ربه على أنه لم يأل جهدا، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه.
فيسليه ربه ويعزيه. فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات. فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به، ويصدون عن سبيل الله. ولكن الله يهدي رسله إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين:
«وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» ..
ولله الحكمة البالغة. فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها. وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها- مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق- هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة، التي لا تبتغي مغانم قريبة. ولا تريد إلا الدعوة خالصة، تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة. ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا. فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع، وأعراض الحياة الدنيا. بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا، وأشدهم إيمانا، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس..
عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل. وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء. وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها. أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته. وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2561