responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2554
وكلتا السورتين تعالجان موضوعا متقاربا، في جو متقارب هنا وهناك.. وقولتهم تلك يقصدون بها الإساءة إلى شخص رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- والتنقص منه. إذ يمثلونه برجل سحر عقله، فهو يقول كلاما غريبا لا يقوله الطبيعيون من الناس! ولكنها في الوقت ذاته تشي بشعورهم الداخلي بأن ما يقوله غير طبيعي، ولا مألوف، ولا هو من عادة البشر ولا من مستوى البشر.. والرد عليهم يوحي بالتعجيب من أمرهم:
«انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» وشبهوك بالمسحورين مرة، واتهموك بالتزوير مرة، ومثلوك برواة الأساطير مرة.. وكله ضلال، وبعد عن إدراك الحق «فَضَلُّوا» ضلوا عن كل طريق للحق، وكل سبيل للهدي «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» .
وينهي هذا الجدل ببيان تفاهة ما يقترحون وما يتصورون من أعراض الحياة الدنيا، التي يحسبونها ذات قيمة، ويرونها أجدر أن يعطيها الله لرسوله إن كان حقا رسولا، من كنز يلقى إليه، أو جنة يأكل منها.
فلو شاء الله لأعطاه أكبر مما يقترحون من هذا المتاع:
«تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً» .
ولكنه شاء أن يجعل له خيرا من الجنات والقصور. الاتصال بواهب الجنات والقصور. والشعور برعايته وحياطته، وتوجيهه وتوفيقه.. وتذوق حلاوة ذلك الاتصال، الذي لا تقاربه نعمة من النعم، ولا متاع صغر أو عظم. وشتان شتان لو كانوا يدركون أو يتذوقون! وعند هذا الحد من استعراض مقولاتهم الظالمة عن الله وعلى رسول الله، يكشف عن مدى آخر من آماد كفرهم وضلالهم. فهم يكذبون بالساعة، ومن ثم لا يتحرجون من ظلم ولا افتراء، ولا يخشون يوما يلقون فيه الله فيحاسبهم على الظلم والافتراء. وهنا يصورهم في مشهد من مشاهد القيامة يزلزل القلوب الصلدة ويهز المشاعر الخامدة، ويطلعهم على هول ما ينتظرهم هناك وعلى حسن ما ينتظر المؤمنين في ذلك الهول العظيم:
«بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً، إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً! «قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا؟» ..
بل كذبوا بالساعة.. وبلغوا هذا المدى من الكفر والضلال. هذا المدى الذي يصوره التعبير بعيدا متطاولا، يضرب عن كل ما قبله ليبرزه ويجسمه: «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ» .. ثم يكشف عن الهول الذي ينتظر أصحاب هذه الفعلة الشنيعة. إنها السعير حاضرة مهيأة: «وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً» ..
والتشخيص- ونعني به خلع الحياة وتجسيمها على ما ليس من شأنه الحياة المجسمة من الأشياء والمعاني والحالات النفسية- فن في القرآن، يرتفع بالصور وبالمشاهد التي يعرضها إلى حد الإعجاز، بما يبث فيها من عنصر الحياة [1] .
ونحن هنا أمام مشهد السعير المتسعرة، وقد دبت فيها الحياة! فإذا هي تنظر فترى أولئك المكذبين بالساعة.

[1] يراجع فصل. «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب: التصوير الفني في القرآن. «دار الشروق» .
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2554
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست