نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2553
الخصائص الفائقة، الناشئة من النفخة العلوية الكريمة.
وإنها الحكمة الإلهية كذلك تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر. واحد من البشر يحس إحساسهم، ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم.. ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو في قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم، لأنه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق! وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد، لأنه بشر منهم، يتسامى بهم رويدا رويدا ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم. وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرا سطرا، ويحققونها معنى معنى، وهم يرونها بينهم، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها، لأنها ممثلة في إنسان ولو كان ملكا ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه، لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته، ولا شوق إلى تحقيق صورته! فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. هي حكمة الله البالغة أن جعل الرسول بشرا ليؤدي دوره على قيادة البشر. والاعتراض على بشرية الرسول جهل بهذه الحكمة. فوق ما فيه من جهل بتكريم الله للإنسان! وكان من اعتراضاتهم الساذجة الجاهلة أن هذا الرسول يمشي في الأسواق ليكسب رزقه. فهلا كفاه الله ذلك، وحباه بالمال الكثير عن غير كد ولا عمل «أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها» ! والله لم يرد لرسوله- صلّى الله عليه وسلّم- أن يكون له كنز ولا أن تكون له جنة. لأنه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته ينهض بتكاليف رسالته الضخمة الهائلة، وهو في الوقت ذاته يسعى لرزقه كما يسعى رجل من أمته. فلا يقولن أحد من أمته يكد لعيشه: لقد كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- مكفي الحاجة، لا يعاني صراع العيش، ومن ثم فرغ لعقيدته ورسالته وتكاليفه، فلم يعوقه عائق مما أعاني.. فها هو ذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعمل ليعيش، ويعمل لرسالته، فلا أقل من أن ينهض كل أحد من أمته بنصيبه الصغير من تكاليف هذه الرسالة- وقدوته أمامه- ولقد انهال المال بعد ذلك على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كي تتم التجربة من جانبها الآخر وتتم القدوة. فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله، فكان كالريح المرسلة في جوده، حتى يستعلي على فتنة المال، ويرخص من قيمته في النفوس وكي لا يقولن أحد بعد ذلك: إنما نهض محمد- صلّى الله عليه وسلّم- برسالته، لأنه عاش فقيرا لا يشغله من المال شاغل، فها هو ذا المال يأتيه غزيرا وفيرا، ولكنه يمضي في دعوته كذلك. شأنه يوم أن كان فقيرا.
وما المال؟ وما الكنوز؟ وما الجنان؟ حين يتصل الإنسان الفاني الضعيف بالله الباقي القوي؟ ما هذه الأرض وما فيها؟ بل ما هذا الكون المخلوق كله، بعد الاتصال بالله خالق كل شيء، وواهب الكثير والقليل؟
ولكن القوم ما كانوا يوم ذلك يدركون! «وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ..
وهي كلمة ظالمة فاحشة حكاها عنهم هنا، وحكاها عنهم كذلك في سورة الإسراء. ورد عليها هنا وهناك ردا واحدا:
«انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ..
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2553