نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2502
ما خنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعائشة خير مني، وصفوان خير منك..
وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة! هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور. خطوة الدليل الباطني الوجداني.
فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي:
«لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ! فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» .. وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بينة وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل: «لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ!» وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن. كاذبون عند الله الذي لا يبدل القول لديه، والذي لا يتغير حكمه، ولا يتبدل قراره. فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها، ولا نجاة لهم من عقباها.
هاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير. وخطوة التثبت بالبينة والدليل..
غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو أمر عظيم لولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم. فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الأليم:
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درسا قاسيا. فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه وعذابه.
فهي فعلة تستحق العذاب العظيم. العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول- صلى الله عليه وسلم- وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيرا. والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة. والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل، حافل بالقلق والقلقلة والحيرة بلا يقين! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة، ورحمته شملت المخطئين، بعد الدرس الأليم.
والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام واختلت فيها المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول:
«إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» ..
وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام:
«إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ» .. لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! «وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» .. بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم. إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول.. «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً» أن تقذفوا عرض رسول الله، وأن تدعوا الألم
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2502