نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2468
وعندئذ وقعت الاستجابة، بعد أن استوفى القوم أجلهم ولم يعد فيهم خير يرجى بعد العناد والغفلة والتكذيب:
«قالَ: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» ..
ولكن حيث لا ينفع الندم، ولا يجدي المتاب:
«فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً» ..
والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة، لا خير فيها، ولا قيمة لها، ولا رابط بينها..
وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم الله بها، وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى.. لم يبق فيهم ما يستحق التكريم فإذا هم غثاء كغثاء السيل، ملقى بلا احتفال ولا اهتمام وذلك من فرائد التعبير القرآني الدقيق.
ويزيدهم على هذه المهانة، الطرد من رحمة الله، والبعد عن اهتمام الناس:
«فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
بعدا في الحياة وفي الذكرى. في عالم الواقع وفي عالم الضمير..
ويمضي السياق بعد ذلك في استعراض القرون:
«ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا. كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ. فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً، وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ. فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ..
هكذا في إجمال، يلخص تاريخ الدعوة، ويقرر سنة الله الجارية، في الأمد الطويل بين نوح وهود في أول السلسلة، وموسى وعيسى في أواخرها.. كل قرن يستوفي أجله ويمضي: «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» . وكلهم يكذبون: «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ» . وكلما كذب المكذبون أخذتهم سنة الله:
«فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً» . وبقيت العبرة ماثلة في مصارعهم لمن يعتبرون: «وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» تتناقلها القرون.
ويختم هذا الاستعراض الخاطف المجمل باللعنة والطرد والاستبعاد من العيون والقلوب: «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» .
ثم يجمل قصة موسى في الرسالة والتكذيب لتتمشى مع نسق العرض وهدفه المقصود:
«ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ، إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ. فَقالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ» .
ويبرز في هذا الاستعراض الاعتراض ذاته على بشرية الرسل: «فَقالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا» . ويريد عليه تلك الملابسة الخاصة بوضع بني إسرائيل في مصر: «وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» مسخرون خاضعون. وهي ادعى- في اعتبار فرعون وملئه- إلى الاستهانة بموسى وهارون! فأما آيات الله التي معهما، وسلطانه الذي بأيديهما، فكل هذا لا إيقاع له في مثل تلك القلوب المطموسة،
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2468