نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2387
والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم- عليه السلام- والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم:
إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا. فهي جماد لا إدراك له أصلا. وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها! «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» ! ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، وردهم إلى شيء من التدبر والتفكر: «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ، فَقالُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» ..
وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم. وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون.
ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:
«ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ! وحقا لقد كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب.. كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر. أما الثانية فكانت انقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير. وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم. وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟! ومن ثم يجبههم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم. لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم:
«قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟!» وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر، وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف.
عند ذلك أخذتهم العزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل، فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ:
«قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» ..
فيالها من آلهة ينصرها عبادها، وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ولا تحاول لها ولا لعبادها نصرا! «قالُوا: حَرِّقُوهُ» ولكن كلمة أخرى قد قيلت.. فأبطلت كل قول، وأحبطت كل كيد. ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد:
«قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» ..
فكانت بردا وسلاما على إبراهيم..
كيف؟
ولماذا نسأل عن هذه وحدها. و «كُونِي» هذه هي الكلمة التي تكون بها أكوان، وتنشأ بها عوالم، وتخلق بها نواميس: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» .
فلا نسأل: كيف لم تحرق النار إبراهيم، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية؟ فالذي قال للنار: كوني حارقة. هو الذي قال لها: كوني بردا وسلاما. وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول. مألوفا للبشر أو غير مألوف.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2387