نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2380
وهؤلاء المشركون كانوا يستعجلون بالعذاب، ويسألون متى هذا الوعد. الوعد بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا.. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهدا من عذاب الآخرة، ويحذرهم ما أصاب المستهزئين قبلهم من عذاب الدنيا:
«لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ.. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
لو يعلمون ما سيكون لكان لهم شأن غير شأنهم، ولكفوا عن استهزائهم واستعجالهم.. فلينظروا ماذا سيكون.
ها هم أولاء تنوشهم النار من كل جانب، فيحاولون في حركة مخبلة- يرسمها التعبير من وراء السطور- أن يكفوا النار عن وجوههم وعن ظهورهم، ولكنهم لا يستطيعون. وكأنما تلقفتهم النار من كل جانب، فلا هم يستطيعون ردها، ولا هم يؤخرون عنها، ولا هم يمهلون إلى أجل قريب.
وهذه المباغتة جزاء الاستعجال. فلقد كانوا يقولون: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فكان الرد هو هذه البغتة التي تذهل العقول، وتشل الإرادة، وتعجزهم عن التفكير والعمل، وتحرمهم مهلة الإنظار والتأجيل.
ذلك عذاب الآخرة. فأما عذاب الدنيا فقد حل بالمستهزئين قبلهم. فإذا كانوا هم لم يقدر عليهم عذاب الاستئصال، فعذاب القتل والأسر والغلب غير ممنوع. وليحذروا الاستهزاء برسولهم. وإلا فمصير المستهزئين بالرسل معروف، جرت به السنة التي لا تتخلف وشهدت به مصارع المستهزئين.
أم إن لهم من يرعاهم بالليل والنهار غير الرحمن، ويمنعهم من العذاب في الدنيا أو الآخرة من دون الله؟
«قُلْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ؟ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ. أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» .
إن الله هو الحارس على كل نفس بالليل والنهار. وصفته هي الرحمة الكبرى، وليس من دونه راع ولا حام. فاسألهم: هل لهم حارس سواه؟
وهو سؤال للإنكار، وللتوبيخ على غفلتهم عن ذكر الله، وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار، ولا راعي لهم سواه: «بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» .
ثم يعيد عليهم السؤال في صورة أخرى: «أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟» فتكون هي التي تحرسهم إذن وتحفظهم؟ كلا فهؤلاء الآلهة «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ» فهم من باب أولى لا يستطيعون نصر سواهم.
«وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» فيستمدوا القوة من صحبة القدرة لهم- كما استمدها هارون وموسى وربهما يقول لهما: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» ..
إن هذه الآلهة مجردة من القوة بذاتها وليس لها مدد من الله تستمد منه القوة. فهي عاجزة عاجزة.
وبعد هذا الجدل التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل.. يضرب السياق عن مجادلتهم ويكشف عن علة لجاجتهم ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب، وهو يوجهها إلى تأمل يد القدرة، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين، وتقص أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير، بعد السعة والمنعة والسلطان!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2380