نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2370
إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد، ولا يتأثر بها إلّا الذين يرونها من ذلك الجيل.
ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا. فلم يكن لهم قبله ذكر، ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به. ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب، وقادوا به البشرية قرونا طويلة، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب. حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية، وانحط فيها ذكرهم، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون! وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد. وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة. فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم. لأنها تجد عندهم ما تنتفع به. فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب. فما هم؟ وما ذاك؟ وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب؟ إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة..
لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب. فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية، ولا مدلول له في معجم الحضارة! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته. وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة! .. ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم، وهو يقول للمشركين، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيب: «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .
ولقد كانت رحمة بهم أن ينزل الله لهم هذا القرآن. ولا يأتيهم بالخارقة التي يطلبونها. فلا يأخذهم وفق سنته بالقاصمة كالقرى التي كذبت فاستأصلت.. وهنا يعرض مشهدا حيا من القصم والاستئصال:
«وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ.. قالُوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» ..
والقصم أشد حركات القطع. وجرسها اللفظي يصور معناها، ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة. فإذا هي مدمرة محطمة.. «وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» .
وهو عند القصم يوقع الفعل على القرى ليشمل ما فيها ومن فيها. وعند الإنشاء يوقع الفعل على القوم الذين ينشأون ويعيدون إنشاء القرى.. وهذه حقيقة في ذاتها.
فالدمار يحل بالديار والدّيار. والإنشاء يبدأ بالديارين فيعيدون إنشاء الدور.. ولكن عرض هذه الحقيقة في هذه الصورة يضخم عملية القصم والتدمير، وهذا هو الظل المراد إلقاؤه بالتعبير على طريقة التصوير [1] ! ثم ننظر فنشهد حركة القوم في تلك القرى وبأس الله يأخذهم، وهم كالفيران في المصيدة يضطربون من هنا إلى هناك قبيل الخمود:
«فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» ..
يسارعون بالخروج من القرية ركضا وعدوا، وقد تبين لهم أنهم مأخوذون ببأس الله. كأنما الركض ينجيهم [1] يراجع فصل: التصوير الفني. وفصل: طريقة القرآن. في كتاب: التصوير الفني في القرآن. «دار الشروق» .
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2370