responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 4  صفحه : 2335
إنها مقابلة عجيبة في تصوير المشهد. مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل الصغير، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف.. والرحمة اللينة اللطيفة تحرسه من المخاوف، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة، ممثلة في المحبة لا في صيال أو نزال: «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» .. وما من شرح يمكن أن يضيف شيئا إلى ذلك الظل الرفيق اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير القرآني العجيب: «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» وكيف يصف لسان بشري، خلقا يصنع على عين الله؟ إن قصارى أي بشري أن يتأمله ويتملاه..
إنها منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية. فكيف بمن يصنع صنعا على عين الله؟ إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه.
ولتصنع على عيني. تحت عين فرعون- عدوك وعدوي- وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافع.
ولكن عينه لا تمتد إليك بالشر لأني ألقيت عليك محبة مني. ويده لا تنالك بالضر وأنت تصنع على عيني.
ولم أحطك في قصر فرعون، بالرعاية والحماية وأدع أمك في بيتها للقلق والخوف. بل جمعتك بها وجمعتها بك:
«إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ» ..
وكان ذلك من تدبير الله. إذ جعل الطفل لا يقبل ثدي المرضعات. وفرعون وزوجه وقد تبنيا الطفل الذي ألقاه اليم بالساحل- مما لا يفصله السياق كما يفصله في موضع آخر- يبحثان له عن مرضع. فيتسامع الناس وتروح أخت موسى بإيحاء من أمها تقول لهم: هل أدلكم على من يكفله؟ وتجيء لهم بأمه فيلقم ثديها. وهكذا يتم تدبير الله للطفل وأمه التي سمعت الإلهام فقذفت بفلذة كبدها في التابوت، وقذفت بالتابوت في اليم، فألقاه اليم بالساحل. ليأخذه عدو لله وله، فيكون الأمن بإلقائه بين هذه المخاوف، وتكون النجاة من فرعون الذي كان يذبح أطفال بني إسرائيل. بإلقائه بين يدي فرعون بلا حارس ولا معين! ومنة أخرى: «وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» ..
ذلك حين كبر وشب في قصر فرعون، ثم نزل المدينة يوما فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما إسرائيلي والآخر مصري، فاستعانه الإسرائيلي فوكز المصري بيده فخر صريعا. ولم يكن ينوي قتله إنما كان ينوي دفعه. فامتلأت نفسه بالغم على هذه الفعلة- وهو المصنوع على عين الله منذ نشأته وتحرج ضميره وتأثم من اندفاعه.. فربه يذكره هنا بنعمته عليه، إذ هداه إلى الاستغفار فشرح صدره بهذا ونجاه من الغم. ولم يتركه مع هذا بلا ابتلاء ليربيه ويعده لما أراد فامتحنه بالخوف والهرب من القصاص؟ وامتحنه بالغربة ومفارقة الأهل والوطن وامتحنه بالخدمة ورعي الغنم، وهو الذي تربى في قصر أعظم ملوك الأرض، وأكثرهم نزفا ومتاعا وزينة..
وفي الوقت المقدر. عند ما نضج واستعد، وابتلي فثبت وصبر وامتحن فجاز الامتحان. وتهيأت الظروف كذلك والأحوال في مصر، وبلغ العذاب ببني إسرائيل مداه..
في ذلك الوقت المقدر في علم الله جيء بموسى من أرض مدين، وهو يظن أنه هو جاء: «فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى» .
جئت في الوقت الذي قدرته لمجيئك.. «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» خالصا مستخلصا ممحضا لي ولرسالتي ودعوتي.. ليس بك شيء من هذه الدنيا ولا لهذه الدنيا. إنما أنت للمهمة التي صنعتك على عيني لها واصطنعتك

نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 4  صفحه : 2335
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست