نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2332
ذلك أن اتباع الهوى هو الذي ينشىء التكذيب بالساعة. فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بأن الحياة الدنيا لا تبلغ فيها الإنسانية كمالها، ولا يتم فيها العدل تمامه وأنه لا بد من حياة أخرى يتحقق فيها الكمال المقدر للإنسان، والعدل المطلق في الجزاء على الأعمال.
هذه هي الوهلة الأولى للنداء العلوي الذي تجاوبت به جنبات الوجود وأنهى الله سبحانه إلى عبده المختار قواعد التوحيد. ولا بد أن موسى قد نسي نفسه ونسي ما جاء من أجله، ليتبع ذلك الصوت العلوي الذي ناداه وليسمع التوجيه القدسي الذي يتلقاه. وبينما هو مستغرق فيما هو فيه، ليس في كيانه ذرة واحدة تتلفت إلى سواه، إذا هو يتلقى سؤالا لا يحتاج منه إلى جواب:
«وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟» ..
إنها عصاه. ولكن أين هو من عصاه؟ إنما يتذكر فيجيب:
«قالَ: هِيَ عَصايَ، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ..
والسؤال لم يكن عن وظيفة العصا في يده. إنما كان عما في يمينه. ولكنه أدرك أن ليس عن ماهيتها يسأل، فهي واضحة، إنما عن وظيفتها معه. فأجاب..
ذلك أقصى ما يعرفه موسى عن تلك العصا: أن يتوكأ عليها وأن يضرب بها أوراق الشجر لتتساقط فتأكلها الغنم- وقد كان يرعى الغنم لشعيب. وقيل: إنه ساق معه في عودته قطيعا منها كان من نصيبه.
وأن يستخدمها في أغراض أخرى من هذا القبيل أجملها ولم يعددها لأن ما ذكره نموذج منها.
ولكن ها هي ذي القدرة القادرة تصنع بتلك العصا في يده ما لم يخطر له على بال، تمهيدا لتكليفه بالمهمة الكبرى:
«قالَ: أَلْقِها يا مُوسى. فَأَلْقاها. فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى. قالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى» :
ووقعت المعجزة الخارقة التي تقع في كل لحظة ولكن الناس لا ينتبهون إليها. وقعت معجزة الحياة.
فإذا العصا حية تسعى. وكم من ملايين الذرات الميتة أو الجامدة كالعصا تتحول في كل لحظة إلى خلية حية ولكنها لا تبهر الإنسان كما يبهره أن تتحول عصا موسى حية تسعى! ذلك أن الإنسان أسير حواسه، وأسير تجاربه، فلا يبعد كثيرا في تصوراته عما تدركه حواسه. وانقلاب العصا حية تسعى ظاهرة حسية تصدم حسه فينتبه لها بشدة. أما الظواهر الخفية لمعجزة الحياة الأولى، ومعجزات الحياة التي تدب في كل لحظة فهي خفية قلما يلتفت إليها. وبخاصة أن الألفة تفقدها جدتها في حسه، فيمر عليها غافلا أو ناسيا.
وقعت المعجزة فدهش لها موسى وخاف: «قالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى» ونردها عصا.
والسياق هنا لا يذكر ما ذكره في سورة أخرى من أنه ولى مدبرا ولم يعقب. إنما يكتفي بالإشارة الخفيفة إلى ما نال موسى- عليه السلام- من خوف: ذلك أن ظل هذه السورة ظل أمن وطمأنينة، فلا يشوبه بحركة الفزع والجري والتولي بعيدا.
واطمأن موسى والتقط الحية، فإذا هي تعود سيرتها الأولى! عصا! .. ووقعت المعجزة في صورتها الأخرى. صورة سلب الحياة من الحي، فإذا هو جامد ميت، كما كان قبل أن تدركه المعجزة الأولى..
وصدر الأمر العلوي مرة أخرى إلى عبده موسى:
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2332