نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2305
استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث.. جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأول. حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس. فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم- عليه السلام- ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها.
ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره.
وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ» .
ونظرا لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى ابن مريم- عليه السلام- صفات ألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، - وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد- تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد.
والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير.
والسياق يخرج القصة في مشاهد مثيرة، حافلة بالعواطف والانفعالات، التي تهز من يقرؤها هزا كأنما هو يشهدها:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً. فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا. قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا؟ قالَ: كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا.. وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا»
..
فهذا هو المشهد الأول- فتاة عذراء. قديسة، وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد. لا يعرف عنها أحد إلا الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي سدنة المعبد الإسرائيلي المتطهرين- ولا يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح من قديم.
ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والاحتجاب عن أنظارهم..
ولا يحدد السياق هذا الشأن، ربما لأنه شأن خاص جدا من خصوصيات الفتاة..
وها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها. ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة.. إنه رجل مكتمل سوي: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا»
.. وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستشير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي: «قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا»
فالتقيّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان..
وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة، التي نشأت في وسط صالح، وكفلها زكريا، بعد أن نذرت لله جنينا.. وهذه هي الهزة الأولى.
«قالَ: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا»
.. وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل. وهذا
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2305