نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2232
خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد.
قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا، والذي حلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه! قال فقام عنه الأخنس وتركه..
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها، وتجاذبهم إليه قلوبهم فيما نعونها، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب، فإذا هم لا ينتفعون به، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه. وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن، ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه ثم يغلبهم التأثر به فيعودون، ثم يتناجون من جديد، حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها:
«وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» ..
نفورا من كلمة التوحيد، التي تهدد وضعهم الاجتماعي، القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية، وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت، وما في الإسلام من تماسك، وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سموا وارتفاع وامتياز. وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به، على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها! ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان فيطلقون التهم على الرسول- صلى الله عليه وسلم- يعتذرون بها عن المكابرة والعناد:
«إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ..
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري. ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر، يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله، وهذا التميز في حديثه، وهذا التفوق في نظمه. فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه، إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر! ولو أنصفوا لقالوا: إنه من عند الله، فما يمكن أن يقول هذا إنسان، ولا خلق آخر من خلق الله.
«انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ..
ضربوا لك الأمثال بالمسحورين ولست بمسحور، إنما أنت رسول، فضلوا ولم يهتدوا، وحاروا فلم يجدوا طريقا يسلكونه. لا إلى الهدى، ولا إلى تعليل موقفهم المريب! ذلك قولهم عن القرآن، وعن الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو يتلو عليهم القرآن. كذلك كذبوا بالبعث، وكفروا بالآخرة:
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2232