نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2142
والله يستخلص لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله، ويجردها له وحده، ويعبده كأنه يراه. وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان.
هذا الشرط الذي قرره إبليس- اللعين- قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه، لأنه سنة الله.. أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه.. ومن ثم كان الجواب:
«هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» ..
هذا صراط. هذا ناموس. هذه سنة. وهي السنة التي إرتضتها الإرادة قانونا وحكما في الهدى والضلال.
«إن عبادي» المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان، ولا لك فيهم تأثير، ولا تملك أن تزين لهم لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة، وهم يعلقون أبصارهم بالله، ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله. إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين. فهو استثناء مقطوع لأن الغاوين ليسوا جزءا من عباد الله المخلصين. إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع. فأما من يخلصون أنفسهم لله، فالله لا يتركهم للضياع. ورحمة الله أوسع ولو تخلفوا فإنهم يثوبون من قريب! فأما العاقبة. عاقبة الغاوين. فهي معلنة في الساحة منذ البدء:
«وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» .
فهؤلاء الغاوون صنوف ودرجات. والغواية ألوان وأشكال. ولكل باب منهم جزء مقسوم، بحسب ما يكونون وما يعملون.
وينتهي المشهد وقد وصل السياق بالقصة إلى نقطة التركيز وموضع العبرة. ووضح كيف يسلك الشيطان طريقه إلى النفوس. وكيف تغلب خصائص الطين في الإنسان على خصائص النفخة. فأما من يتصل بالله ويحتفظ بنفخة روحه فلا سلطان عليه للشيطان..
وبمناسبة ذكر مصير الغاوين يذكر مصير المخلصين:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» .
والمتقون هم الذين يرقبون الله ويقون أنفسهم عذابه وأسبابه. ولعل العيون في الجنات تقابل في المشهد تلك الأبواب في جهنم وهم يدخلون الجنات بسلام آمنين في مقابل الخوف والفزع هناك. ونزعنا ما في صدورهم من غل، في مقابل الحقد الذي يغلي به صدر إبليس فيما سلف من السياق. لا يمسهم فيها نصب ولا يخافون منها خروجا. جزاء ما خافوا في الأرض واتقوا فاستحقوا المقام المطمئن الآمن في جوار الله الكريم....
وبعد، فإن قصة البشرية الكبرى- كما تعرض في هذا السياق القرآني- تستحق تعقيبات مفصلة لا نملك ان نستطرد فيها- في ظلال القرآن- فنكتفي أن نلم بها إلماما، على قدر المناسبة:
أن دلالتها واضحة على طبيعة تكوين هذا الخلق المسمى بالإنسان. فهو تكوين خاص متفرد، يزيد على مجرد التركيب العضوي الحيوي، الذي يشترك فيه مع بقية الأحياء. وأيا كانت نشأة الحياة، ونشأة الأحياء فإن الخلق الإنساني يتفرد بخاصية أخرى هي التي ورد بها النص القرآني.. خاصية الروح الإلهي المودع فيه..
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2142