نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2106
ودعهم. وانصرف عنهم إلى «لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» . انصرف عنهم إلى موعظة الذين تجدي فيهم الموعظة.
الذين يتقبلون نعمة الله ولا يردونها، ولا يستبدلون بها الكفر. انصرف إليهم تعلمهم كيف يشكرون النعمة بالعبادة والطاعة والبر بعباد الله:
«قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا: يُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» ..
قل لعبادي الذين آمنوا: يشكروا ربهم بإقامة الصلاة. فالصلاة أخص مظاهر الشكر لله. وينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرزق سراً وعلانية. سراً حيث تصان كرامة الآخذين ومروءة المعطين، فلا يكون الإنفاق تفاخراً وتظاهراً ومباهاة. وعلانية حيث تعلن الطاعة بالإنفاق وتؤدى الفريضة، وتكون القدوة الطيبة في المجتمع. وهذا وذلك متروك لحساسية الضمير المؤمن وتقديره للأحوال.
قل لهم: ينفقوا ليربو رصيدهم المدخر من قبل أن يأتي يوم لا تنمو فيه الأموال بتجارة، ولا تنفع كذلك فيه صداقة، إنما ينفع المدخر من الأعمال:
«مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» ..
وهنا يفتح كتاب الكون على مصراعيه فتنطق سطوره الهائلة بنعم الله التي لا تحصى. وتتوالى صفحاته الضخمة الفسيحة بألوان هذه النعم على مد البصر: السماوات والأرض. الشمس والقمر. الليل والنهار. الماء النازل من السماء والثمار النابتة من الأرض. البحر تجري فيه الفلك، والأنهار تجري بالأرزاق.. هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار، ولكن البشر في جاهليتهم لا ينظرون ولا يقرأون ولا يتدبرون ولا يشكرون: إن الإنسان لظلوم كفار. يبدل نعمة الله كفراً، ويجعل لله أنداداً، وهو الخالق الرازق المسخر الكون كله لهذا الإنسان:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
إنها حملة. إنها سياط تلذع الوجدان ... حملة أدواتها الهائلة السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبحار والأنهار والأمطار والثمار.. وسياط ذات إيقاع، وذات رنين، وذات لذع لهذا الإنسان الظلوم الكفار! إن من معجزات هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد. ويحول كل ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء.. وهكذا يستحيل الكون بكل ما فيه وبكل من فيه معرضاً لآيات الله، تبدع فيه يد القدرة، وتتجلى آثارها في كل مشهد فيه ومنظر، وفي كل صورة فيه وظل.. إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة «ميتافيزيقية» ذلك العرض الميت الجاف الذي لا يمس القلب البشري ولا يؤثر فيه ولا يوحي إليه..
إنما هو يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون، ومجالي الخلق، ولمسات الفطرة، وبديهيات الإدراك. في جمال وروعة واتساق.
والمشهد الهائل الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه، تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه الآلاء
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2106