نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2090
على اختلاف الزمان والمكان.. وكأن موسى «راوية» يبدأ بالإشارة الى أحداث الرواية الكبرى. ثم يدع أبطالها يتحدثون بعد ذلك ويتصرفون.. وهي طريقة من طرق العرض للقصة في القرآن، تحول القصة المحكية إلى رواية حية كما أسلفنا. وهنا نشهد الرسل الكرام في موكب الإيمان، يواجهون البشرية متجمعة في جاهليتها. حيث تتوارى الفواصل بين أجيالها وأقوامها. وتبرز الحقائق الكبرى مجردة عن الزمان والمكان، كما هي في حقيقة الوجود خلف حواجز الزمان والمكان:
«أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ؟» ..
فهم كثير إذن، وهناك غير من جاء ذكرهم في القرآن. ما بين ثمود وقوم موسى. والسياق هنا لا يعنى بتفصيل أمرهم، فهناك وحدة في دعوة الرسل ووحدة فيما قوبلت به:
«جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ..
الواضحات التي لا يلتبس أمرها على الإدراك السليم.
«فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ، وَقالُوا: إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» ..
ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل من يريد تمويج الصوت ليسمع عن بعد، بتحريك كفه أمام فمه وهو يرفع صوته ذهاباً وإياباً فيتموج الصوت ويُسمع. يرسم السياق هذه الحركة التي تدل على جهرهم بالتكذيب والشك، وإفحاشهم في هذا الجهر، وإتيانهم بهذه الحركة الغليظة التي لا أدب فيها ولا ذوق، إمعاناً منهم في الجهر بالكفر.
ولما كان الذي يدعوهم إليه رسلهم هو الاعتقاد بألوهية الله وحده، وربوبيته للبشر بلا شريك من عباده..
فإن الشك في هذه الحقيقة الناطقة التي تدركها الفطرة، وتدل عليها آيات الله المبثوثة في ظاهر الكون المتجلية في صفحاته، يبدو مستنكراً قبيحاً. وقد استنكر الرسل هذا الشك. والسماوات والأرض شاهدان.
«قالَتْ رُسُلُهُمْ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟» ..
أفي الله شك والسماوات والأرض تنطقان للفطرة بأن الله أبدعهما أبداعاً وأنشأهما إنشاء؟ قالت رسلهم هذا القول، لأن السماوات والأرض آيتان هائلتان بارزتان، فمجرد الإشارة إليهما يكفي، ويرد الشارد إلى الرشد سريعاً، ولم يزيدوا على الإشارة شيئا لأنها وحدها تكفي ثم أخذوا يعددون نعم الله على البشر في دعوتهم إلى الإيمان، وفي إمهالهم إلى أجل يتدبرون فيه ويتقون العذاب:
«أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» .
والدعوة أصلاً دعوة إلى الإيمان، المؤدي إلى المغفرة. ولكن السياق يجعل الدعوة مباشرة للمغفرة، لتتجلى نعمة الله ومنته. وعندئذٍ يبدو عجيباً أن يدعى قوم إلى المغفرة فيكون هذا تلقيهم للدعوة! «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» .. «وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» ..
فهو- سبحانه- مع الدعوة للمغفرة لا يعجلكم بالإيمان فور الدعوة، ولا يأخذكم بالعذاب فور التكذيب.
إنما يمن عليكم منة أخرى فيؤخركم إلى أجل مسمى. إما في هذه الدنيا وإما إلى يوم الحساب، ترجعون فيه إلى نفوسكم، وتتدبرون آيات الله وبيان رسلكم. وهي رحمة وسماحة تحسبان في باب النعم.. فهل هذا هو جواب دعوة الله الرحيم المنان؟!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2090