نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2071
ولا ننتهي من هذه الوقفة قبل أن نلم بتلك اللفته البارزة في قوله تعالى:
«وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ..
إن هذا القول إنما يقال للنبي- صلى الله عليه وسلم- الرسول الذي أوحي إليه من ربه. وكلف مخاطبة الناس بهذه العقيدة.. وخلاصة هذا القول: إن أمر هذا الدين ليس إليه هو، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس. فالله وحده هو الذي يملك الهداية. وسواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته..
البلاغ.. وحسابهم بعد ذلك على الله.. وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته. فواجبه محدد، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله.
بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر.. ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين.. ليس لهم أن يقولوا:
لقد دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل أو لقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء! ..
إنْ عليهم إلا البلاغ.. أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد. إنما هو من شأن الله! فينبغي- تأدباً في حق الله واعترافاً بالعبودية له- أن يترك له سبحانه، يفعل فيه ما يشاء ويختار..
والسورة مكية.. من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول- صلى الله عليه وسلم- «بالبلاغ» .. ذلك أن «الجهاد» لم يكن بعد قد كتب. فأما بعد ذلك فقد أمر بالجهاد- بعد البلاغ- وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين. فالنصوص فيه نصوص حركية مواكبه لحركة الدعوة وواقعها وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها.. وهذا ما تغفل عنه كثرة «الباحثين» في هذا الدين في هذا الزمان. وهم يزاولون «البحث» ولا يزاولون «الحركة» فلا يدركون- من ثم- مواقع النصوص القرآنية، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين! وكثيرون يقرأون مثل هذا النص: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى الله تنتهي عند البلاغ. فإذا قاموا «بالتبليغ» فقد أدوا ما عليهم! .. أما «الجهاد» ! فلا أدري- والله- أين مكانه في تصور هؤلاء! كما أن كثيرين يقرأون مثل هذا النص، فلا يلغون به الجهاد، ولكن يقيدونه! .. دون أن يفطنوا إلى أن هذا نص مكي نزل قبل فرض الجهاد. ودون أن يدركوا طبيعة ارتباط النصوص القرآنية بحركة الدعوة الإسلامية. ذلك أنهم هم لا يزاولون الحركة بهذا الدين إنما هم يقرأونه في الأوراق وهم قاعدون! وهذا الدين لا يفقهه القاعدون. فما هو بدين القاعدين! على أن «البلاغ» يظل هو قاعدة عمل الرسول، وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين. وهذا البلاغ هو أول مراتب الجهاد. فإنه متى صح، واتجه إلى تبليغ الحقائق الأساسية في هذا الدين قبل الحقائق الفرعية..
أي متى اتجه إلى تقرير الألوهية والربوبية والحاكمية لله وحده منذ الخطوة الأولى واتجه إلى تعبيد الناس لله وحده، وقصر دينونتهم عليه وخلع الدينونة لغيره.. فإن الجاهلية لا بد أن تواجه الدعاة إلى الله، المبلغين التبليغ الصحيح، بالإعراض والتحدي، ثم بالإيذاء والمكافحة ... ومن ثم تجيء مرحلة الجهاد في حينها،
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2071