نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2039
بحرارته وإشعاعه وإيحائه ويتكيفون بعد ذلك وفق حقائقه وقيمه وتصوراته.
أما نحن اليوم فنتكيف وفق تصورات فلان وفلان عن الكون والحياة والقيم والأوضاع. وفلان وفلان من البشر القاصرين أبناء الفناء! ثم ننظر نحن إلى ما حققوه في حياتهم من خوارق في ذات أنفسهم وفي الحياة من حولهم، فنحاول تفسيرها وتعليلها بمنطقنا الذي يستمد معاييره من قيم وتصورات ومؤثرات غير قيمهم وتصوراتهم ومؤثراتهم.
فنخطئ ولا شك في تقدير البواعث وتعليل الدوافع وتفسير النتائج.. لأنهم هم خلق آخر من صنع هذا القرآن..
وإنني لأهيب بقراء هذه الظلال، ألا تكون هي هدفهم من الكتاب. إنما يقرءونها ليدنوا من القرآن ذاته. ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته، ويطرحوا عنهم هذه الظلال. وهم لن يتناولوه في حقيقته إلا إذا وقفوا حياتهم كلها على تحقيق مدلولاته وعلى خوض المعركة مع الجاهلية باسمه وتحت رايته.
وبعد فهذا استطراد اندفعت إليه وأمامي هذه السورة- سورة الرعد- وكأنما أقرؤها لأول مرة، وقد قرأتها من قبل وسمعتها ما لا أحصيه من المرات. ولكن هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات وإشراقات وإيحاءات وإيقاعات بقدر ما تفتح له نفسك ويبدو لك في كل مرة جديدا كأنك تتلقاه اللحظة، ولم تقرأه أو تسمعه أو تعالجه من قبل! وهذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد، وإيقاع واحد [1] ، وجو واحد، وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها والتي تفعم النفس، وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج، والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات، والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا، وهو مستيقظ، مبصر، مدرك، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات.
إنها ليست ألفاظا وعبارات، إنما هي مطارق وإيقاعات: صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها.
لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك! إن موضوعها الرئيسي ككل موضوع السور المكية [2] كلها على وجه التقريب- هو العقيدة وقضاياها..
هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الدينونة لله وحده في الدنيا والآخرة جميعا ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث.. وما إليها ...
ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة، لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في كل تلك السور [1] الإيقاع الموسيقي في القرآن يتألف من عناصر شتى: من مخارج الحروف في الكلمة الواحدة ومن تناسق الإيقاعات بين كلمات الفقرة ومن اتجاهات المد في الكلمات، ثم من اتجاهات المد في نهاية الفاصلة المطردة في الآيات ومن حرف الفاصلة ذاته (وقد تكلمت عن هذا بتوسع في كتاب التصوير الفني) وجميع العناصر التي يتألف منها الإيقاع في هذه السورة واحدة فيما عدا اتجاه المد وحرف الفاصلة في القسم الأول منها حتى آية 5 فمد الفاصلة وحرفها: «يؤمنون. توقنون. يتفكرون. يعقلون. خالدون» وبقية السورة: «العقاب. هاد. بمقدار.
المتعال. بالنهار ... إلخ» . [2] السورة مكية بخلاف ما ورد في المصحف الأميري وبعض المصاحف- اعتمادا على بعض الروايات- أنها مدنية.. ومكية السورة شديدة الوضوح: سواء في طبيعة موضوعها، أو طريقة أدائها، أو في جوها العام. الذي لا يخطىء تنسمه من يعيش فترة في ظلال القرآن!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2039