نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2025
أما هم فقد طلب إليهم أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه صراحة بأن ابنه سرق، فأخذ بما سرق. ذلك ما علموه شهدوا به. أما إن كان بريئاً، وكان هناك أمر وراء هذا الظاهر لا يعلمونه، فهم غير موكلين بالغيب.
كما أنهم لم يكونوا يتوقعون أن يحدث ما حدث، فذلك كان غيباً بالنسبة إليهم، وما هم بحافظين للغيب.
وإن كان في شك من قولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها- وهي عاصمة مصر- والقرية اسم للمدينة الكبيرة- وليسأل القافلة التي كانوا فيها، فهم لم يكونوا وحدهم، فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتمتار الغلة في السنين العجاف..
ويطوي السياق الطريق بهم، حتى يقفهم في مشهد أمام أبيهم المفجوع، وقد أفضوا إليه بالنبأ الفظيع.
فلا نسمع إلا رده قصيراً سريعاً، شجياً وجيعاً. ولكن وراءه أملاً لم ينقطع في الله أن يرد عليه ولديه، أو أولاده الثلاثة بما فيهم كبيرهم الذي أقسم ألا يبرح حتى يحكم الله له. وإنه لأمل عجيب في ذلك القلب الوجيع:
«قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم» ..
«بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل» .. كلمته ذاتها يوم فقد يوسف. ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك.. «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ..
الذي يعلم حاله، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات، ويأتي بكل أمر في وقته المناسب، عند ما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.
هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟ إنه الرجاء في الله، والاتصال الوثيق به، والشعور بوجوده ورحمته. ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة، فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار.
«وتولى عنهم وقال: يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» ..
وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع. يحس أنه منفرد بهمه، وحيد بمصابه، لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه، فينفرد في معزل، يندب فجيعته في ولده الحبيب. يوسف. الذي لم ينسه، ولم تهوّن من مصيبته السنون، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل:
«يا أسفا على يوسف!» ..
ويكظم الرجل حزنه ويتجلد فيؤثر هذا الكظم في أعصابه حتى تبيض عيناه حزناً وكمداً:
«وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» ..
ويبلغ الحقد بقلوب بنيه ألا يرحموا ما به، وأن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف وحزنه عليه ذلك الحزن الكامد الكظيم، فلا يسرون عنه، ولا يعزونه، ولا يعللونه بالرجاء، بل يريدون ليطمسوا في قلبه الشعاع الأخير:
«قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين!» ..
وهي كلمة حانقة مستنكرة. تالله تظل تذكر يوسف، ويهدك الحزن عليه، حتى تذوب حزناً أو تهلك أسى بلا جدوى. فيوسف ميئوس منه قد ذهب ولن يعود!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2025