نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 1956
أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يا صاحبي السجن، أما أحدكما فيسقي ربه خمراً، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» ..
وهو- مع هذا كله- بشر، فيه ضعف البشر. فهو يتطلب الخلاص من سجنه، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم. وإن كان الله- سبحانه- شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده:
«وقال للذي ظن أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك. فأنساه الشيطان ذكر ربه. فلبث في السجن بضع سنين ... » .
ثم تطالعنا ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين، وقد رأى الملك رؤياه، فحار في تأويلها الكهنة والسدنة حتى تذكر صاحب السجن يوسف- بعد ما تمت التربية الربانية للعبد الصالح، فاطمأن إلى قدر الله به واطمأن إلى مصيره- حتى إذا ما طلب الملك- بعد تأويله لرؤياه- أن يأتوه به، أجاب في هدوء المطمئن الواثق وتمنع عن مغادرة سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته:
«وقال الملك: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات.
يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي، إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادكّر بعد أمة: أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون. يوسف أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال: تزرعون سبع سنين دأبا، فما حصدتم فذروه في سنبله، إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن. إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.. وقال الملك: ائتوني به.. فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك فاسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله! ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين.
ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم.. وقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال: اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم» ..
ومنذ هذه اللحظة التي تجلت فيها شخصية يوسف مكتملة ناضجة واعية، مطمئنة ساكنة واثقة، نجد هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث، وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة والبيئة. ويمهد السياق القرآني لهذا التحول في القصة وفي الواقع بقوله:
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
ومنذ هذه اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات، تختلف في طبيعتها عن الألوان الأولى وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي، وبتلك الطمأنينة الساكنة الواثقة.
نجد يوسف وهو يواجه- للمرة الأولى- إخوته بعد ما فعلوا به تلك الفعلة القديمة وهو في الموقف الأعلى بالقياس إليهم والأقوى.. ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته وتصرفاته:
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 1956