التفسير: أما والقوم قد أبوا أن يصدّقوا إلا أن يروا بأعينهم، فقد ابتلاهم الله، ووضعهم أمام تجربة حسيّة يدعوهم إليها «طالوت» الذي جاءهم بالآيات ليحملهم على التصديق به.. وليس لهم بعد ذلك أن يخرجوا عن طاعته، بعد أن استيقنوا أن الله قد اصطفاه عليهم.. وها هوذا يدعوهم إلى محنة قاسية، لم يكن لهم أن يتحللوا منها بحال أبدا.. إنها من طالوت، وإن طالوت من الله، وشاهده فى يده!! «قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» .
هذه هى التجربة، وهذا هو الابتلاء.! فالقوم عطشى والماء بين أيديهم، وكلمة الله إليهم: «ألّا يشربوا من هذا الماء وألا يرووا ظمأهم» . وفى هذا:
أولا: امتحان لإيمانهم، واستجابتهم لما يدعون إليه، وهم فى وجه تجربة أقسى وأمر، هى لقاء العدوّ الذي عرفوه وعرفوا بأسه وجبروته وبطشه بهم، وبآبائهم من قبل! وثانيا: أن ذلك رياضة لهم وتدريب على احتمال مكاره الحرب وأهوالها، وربما كان الظمأ أهون شىء فيها.
هذا بعض ما تنطوى عليه التجربة فى كيانها، ولكن القوم لا يرون إلا ما يطفو على ظاهرها، وأنها ليست إلا تحكما من طالوت، لا يمليه عليه إلا حبّ التسلط والاستبداد، وهذا ما يضاعف من كمدهم وحقدهم.. ليجعل الله ذلك حسرة فى قلوبهم.. إنهم يحومون حول الماء ولا يردونه، وتحترق أكبادهم ظمأ ويحرم عليهم أن يشربوا منه.. «كَذلِكَ الْعَذابُ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» (16: فصلت) .