responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 25  صفحه : 137
يَتَلَقَّى بِهِمَا نِعْمَةَ رَبِّهِ وَبَلَاءَهُ وَكَيْفَ لَمْ يُفْطَرْ عَلَى الْخُلُقِ الْأَكْمَلِ لِيَتَلَقَّى النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، وَالضُّرَّ بِالصَّبْرِ وَالضَّرَاعَةِ، وَسُؤَالًا أَيْضًا عَنْ سَبَبِ إِذَاقَةِ الْإِنْسَانِ النِّعْمَةَ مَرَّةً وَالْبُؤْسَ مَرَّةً فَيَبْطَرُ وَيَكْفُرُ وَكَيْفَ لَمْ يَجْعَلْ حَالَهُ كَفَافًا لَا لَذَّاتَ لَهُ وَلَا بَلَايَا كَحَالِ الْعَجْمَاوَاتِ فَكَانَ جَوَابُهُ: أَنَّ اللَّهَ الْمُتَصَرِّفَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ فِيهِمَا مَا يَشَاءُ مِنَ الذَّوَاتِ وَأَحْوَالِهَا. وَهُوَ جَوَابٌ إِجْمَالِيٌّ إِقْنَاعِيٌّ يُنَاسِبُ حَضْرَةَ التَّرَفُّعِ عَنِ الدُّخُولِ فِي المجادلة عَن الشؤون الْإِلَهِيَّةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ مِنَ الْإِجْمَالِ مَا يَبْعَثُ الْمُتَأَمِّلَ الْمُنْصِفَ عَلَى تَطَلُّبِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ تَطَلَّبَهَا انْقَادَتْ لَهُ كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ تَذْيِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالنَّظَرِ فِي الْحِكْمَةِ فِي مَرَاتِبِ الْكَائِنَاتِ وَتَصَرُّفِ مُبْدِعِهَا، فَكَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى أَكْمَلِ الْأَخْلَاقِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَفَطَرَ الدَّوَابَّ عَلَى حَدٍّ لَا يَقْبَلُ كَمَالَ الْخَلْقِ، كَذَلِكَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَى أَسَاسِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَجَعَلَهُ قَابِلًا لِلزِّيَادَةِ مِنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ عُقُولِ أَفْرَادِهِ وَمَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ، وَخَلَقَهُ كَامِلَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النِّعْمَةِ وَضِدِّهَا لِيَرْتَفِعَ دَرَجَاتٍ وَيَنْحَطَّ دَرَكَاتٍ مِمَّا يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُلَائِمُ فَطْرُ الْإِنْسَانِ عَلَى فِطْرَةِ الْمَلَائِكَةِ حَالَةَ عَالَمِهِ الْمَادِّيِّ إِذْ لَا تَأَهُّلَ لِهَذَا الْعَالَمِ لِأَنْ يَكُونَ سُكَّانُهُ كَالْمَلَائِكَةِ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَعَالَمِ الرُّوحِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا تَمَّ خَلْقُ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَآنَ أَوَانُ تَصَرُّفِهِ مَعَ قَرِينَتِهِ بِحَسَبِ مَا بَزَغَ فِيهِمَا مِنَ الْقُوَى، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ نُقِلَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ إِلَى عَالَمِ الْمَادَّةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: 123] .
وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسُدَّ عَلَى النَّوْعِ مَنَافِذَ الْكَمَالِ فَخَلَقَهُ خَلْقًا وَسَطًا بَيْنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالْبَهِيمِيَّةِ إِذْ رَكَّبَهُ مِنَ الْمَادَّةِ وَأَوْدَعَ فِيهِ الرُّوحَ وَلَمْ يُخَلِّهِ عَنِ الْإِرْشَادِ بِوَاسِطَةِ وُسَطَاءَ وَتَعَاقُبِهِمْ فِي الْعُصُورِ وَتَنَاقُلِ إِرْشَادِهِمْ بَيْنَ الْأَجْيَالِ، فَإِنِ اتَّبَعَ إِرْشَادَهُمُ الْتَحَقَ بِأَخْلَاقِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْمَقَامَاتِ الَّتِي أَقَامَتْهُ فِي مَقَامِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ بَعْضِ أَفْرَادِهِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ فِي التَّفَاضُلِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: 123، 124] ،

نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 25  صفحه : 137
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست