responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 2  صفحه : 303
حَدَثَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ وَعَمَّهُمْ عَاجِلًا فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ بِالطُّوفَانِ وَنَجَّى نُوحًا وَنَفَرًا مَعَهُ فَأَصْبَحَ جَمِيعُ النَّاسِ صَالِحِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ. فَيَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَنْظُرَ الْآنَ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَعْنَى فِي تَارِيخِ ظُهُورِ الشَّرَائِعِ وَفِي أَسْبَابِ ذَلِكَ.
النَّاسُ أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ أَبَوَيْهِمْ لَمَّا وَلَدَا الْأَبْنَاءَ الْكَثِيرِينَ وَتَوَالَدَ أَبْنَاؤُهُمَا تَأَلَّفَتْ مِنْهُمْ فِي أَمَدٍ قَصِيرٍ عَائِلَةٌ وَاحِدَةٌ خُلِقَتْ مِنْ مِزَاجٍ نَقِيٍّ فَكَانَتْ لَهَا أمزجة متماثلة ونشأوا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَحْوَالِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا وَمَا كَانَتْ لِتَخْتَلِفَ إِلَّا اخْتِلَافًا قَلِيلًا لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ يُؤْبَهُ بِهِ وَلَا يُحْدِثُ فِي الْعَائِلَةِ تَنَافُرًا وَلَا تُغَالُبَا.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ أَرَادَهُ لِيَكُونَ أَفْضَلَ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ عَلَى حَالَةٍ صَالِحَةٍ لِلْكَمَالِ وَالْخَيْرِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] . فَآدَمُ خُلِقَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يَلِيقُ بِالذَّكَرِ جِسْمًا وَعَقْلًا وَأَلْهَمَهُ مَعْرِفَةَ الْخَيْرِ وَاتِّبَاعَهُ وَمَعْرِفَةَ الشَّرِّ وَتَجَنُّبَهُ فَكَانَتْ آرَاؤُهُ مُسْتَقِيمَةً تَتَوَجَّهُ ابْتِدَاءً لِمَا فِيهِ النَّفْعُ وَتَهْتَدِي إِلَى مَا يَحْتَاجُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ، وَتَتَعَقَّلُ مَا يُشَارُ بِهِ عَلَيْهِ فَتَمَيَّزَ النَّافِعُ مِنْ غَيْرِهِ وَيُسَاعِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ فِكْرُهُ جَسَدٌ سَلِيمٌ قَوِيٌّ مَتِينٌ وَحَوَّاءُ خُلِقَتْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يَلِيقُ بِالْأُنْثَى خَلْقًا مُشَابِهًا لِخَلْقِ آدَمَ، إِذْ أَنَّهَا خُلِقَتْ كَمَا خُلِقَ آدَمُ، قَالَ تَعَالَى:
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النِّسَاء: 1] فَكَانَتْ فِي انْسِيَاقِ عَقْلِهَا وَاهْتِدَائِهَا وَتَعَقُّلِهَا وَمُسَاعَدَةِ جَسَدِهَا عَلَى ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ عَلَيْهِ آدَمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَقْوَى عُنْصُرٍ فِي تَقْوِيمِ الْبَشَرِ عِنْدَ الْخِلْقَةِ هُوَ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِيمُ فَبِالْعَقْلِ تَأَتَّى لِلْبَشَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي خَصَائِصِهِ، وَأَنْ يَضَعَهَا فِي مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
هَكَذَا كَانَ شَأْنُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَمَا وَلَدَا مِنَ الْأَوْلَادِ نَشَأَ مِثْلَ نَشْأَتِهِمَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ اهْتَدَى أَحَدُ بَنِي آدَمَ إِلَى دَفْنِ أَخِيهِ مِنْ مُشَاهَدَةِ فِعْلِ الْغُرَابِ الْبَاحِثِ فِي الأَرْض فَكَانَت الِاسْتِنْبَاطُ الْفِكْرِيُّ وَالتَّقْلِيدُ بِهِ أُسَّ الْحَضَارَةِ الْبَشَرِيَّةِ. فَالصَّلَاحُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَدَامَ عَلَيْهِ دَهْرًا لَيْسَ بِالْقَصِيرِ، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَدُّ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، ذَلِكَ أَنَّ ارْتِدَادَ الْإِنْسَانِ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِنَّمَا عَرَضَ لَهُ بِعَوَارِضَ كَانَتْ فِي مَبْدَأِ الْخَلِيقَةِ قَلِيلَةَ الْطُرُوِّ أَوْ مَعْدُومَتَهُ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الِانْحِرَافِ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لَا تَعْدُو أَرْبَعَةَ أَسْبَابٍ:

نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 2  صفحه : 303
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست