ومشروعية الدعاء فيه رد على أهل الطبائع، وعلى عُبَّاد النجوم من يقول بالطبائع، أي أن الطبائع فاعلة بطبعها، يعني بذاتها لا بجعل الله، يعلم أن النار لا يقال لها كفي، ولا النجم يقال له أصلح مزاجي؛ لأن هذه عندهم مؤثرة طبعا لا اختيارا، فشرع الله الدعاء وصلاة الاستسقاء؛ ليبين كذب أهل الطبائع والذين يعبدون النجوم إنما يعبدونها في زعمهم لكونها رمزا للملائكة الذين يفعلون، فمشروعية الدعاء فيه رد عليهم.
الذين قالوا إن الدعاء نافع وغير مفيد، الدعاء غير نافع وغير مفيد وغير مشروع وهم الفلاسفة وغالية الصوفية والمعتزلة لهم شُبَه لهم شبه عقلية، ليس عندهم شيء من أدلة الشرع:
الشبهة الأولى قالوا: المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء، فعلى التقديرين الدعاء عبث؛ لأن الإرادة والمشيئة ضد الدعاء يقولون: إن اقتضت المشيئة وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء؛ وإن لم تقتض المشيئة حصول المطلوب فلا فائدة في الدعاء.
ويجاب عن هذه الشبهة بجوابين:
الأول: إجمالي، وهو منع الحصر في المقدمتين، فإن الحصر في هاتين المقدمتين غير مسلم به، بل ثَمَّ مقدمة ثالثة، وقسم ثالث وهي أن يقال أن تقتضي المشيئة وجود المطلوب بشرط ولا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه كما تقتضي المشيئة الثواب مع العمل الصالح ولا تقتضيه مع عدمه، وكما تقتضي المشيئة الشبع والري عند الأكل والشرب ولا تقتضيه مع عدمهما، وكما تقتضي المشيئة حصول الولد بالوطء وحصول الزرع بالبذر.
فإذا قدر وقوع المدعو بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب. الثاني الوجه الثاني: أن يقال قول هؤلاء الذين ينكرون فائدة الدعاء قولهم مخالف للشرع وللحس وللفطرة، وطرد دليلهم يلزمه الفوضى في الوجود وتعطيل المصالح، إذ يمكن أن يقال إن شاء الله لي الشبع فلا فائدة في الأكل، وإن لم يشاء فلا حاجة إليه، وإن شاء الله لي الولد فلا حاجة للزواج فكذلك إذا شاء الله لي حصول المطلوب فلا فائدة في الدعاء.
قول هؤلاء لو طرد لصار فيه فوضى في الوجود وتعطيل للمصالح الجواب الثاني عن هذه الشبهة، قولكم: إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة للدعاء. يقال بل إن الدعاء تكون إليه حاجة من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة من اكتساب الأجر والعبودية والتضرع والتعرف إلى الله وزيادة الإيمان، والحصول على الجنة، ومن دفع مضرة أخرى عاجلة كمرض وسوء، وآجلة كعذاب النار، وقد يعطيه الله غير طلبه ففيه فائدة على كل حال.
وقولهم: إن لم تقتضه فلا فائدة فيه. يقال: بل فيه فوائد عظيمة من جلب المنافع ودفع المضار مما يعجل للعبد في الدنيا من معرفته بربه وإقراره به، وبأنه سميع قريب عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه، وما يتبع من العلوم العلية والأحوال الذكية التي هي أعظم المطالب كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ما معناه: (لا يسأل اللهَ عبدٌ إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يعطيه من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها مثل ذلك)
الشبهة الثانية للمانعين من الدعاء: قالوا إذا كان إعطاء الله معللا بفعل العبد كما يعقل من إعطاء المال للسائل بسؤاله، كان السائل قد أثر في المسئول حتى أعطاه يعني يقولون: لو كان الدعاء مفيد للزم من ذلك أن يكون الداعي قد أثر في الله حتى أعطاه سؤله وجواب هذه الشبهة أن يقال: إن الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه فمنه الدعاء وعليه التمام فهذا الخير منه سبحانه وتمامه عليه كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه".
فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء ويجعلها سببا للخير ليعطيه إياه فما أثر فيه شيء من المخلوقات، بل هو جعل ما يفعله في عبده من الدعاء سببا لما يفعله فيه من الإجابة كما في العمل والثواب، فالله هو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه.
الشبهة الثالثة للمانعين من الدعاء قالوا: إن الداعي قد لا يجاب بالمرة وقد يجاب بغير المطلوب فكيف يجمع بين ذلك وبين الوعد بالإجابة، وبعبارة أخرى يقولون: إن من الناس من يسأل الله فلا يُعْطَى سؤاله، أو يعطى غير ما سئل، فلا يستجاب له ولا يحقق له المطلوب فكيف يجمع بين هذا، وبين قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}