النوع الخامس من الأدلة: إرسال جبريل -عليه الصلاة والسلام- بعد خلق الجنة والنار للنظر إليهما، فشاهدهما، وما حف بكل منهما، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال: اذهب، فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها) وقال في النار مثل ذلك.. الحديث.
هذه خمسة أنواع من الأدلة، كلها تدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وتحت كل نوع أفراد من الأدلة، أما المنكرون لخلقهما الآن، وهم المعتزلة والقدرية، فإنهم يقولون: إن الله ينشؤهما، ويخلقهما يوم القيامة، وأنكروا وجودهما الآن.
حجتهم في ذلك:
هذا المذهب مبني على أصلهم الفاسد، الذي حملهم على الإنكار، وأصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة للرب فيما يفعله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وهو الحسن والقبح العقليين، وقياس الله على خلقه في أفعاله، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة في الصفات، فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة، التي وضعوها لله، وهي مسألة الحسن والقبح العقليين، وصرفوا النصوص عن مواضعها وضللوا، وبدلوا من خالف شريعتهم، فقالوا: -هذه شبهتهم العقلية- قالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مددا متطاولة، والعبث محال على الله.
هذه حجتهم: العقل، قالوا: خلق الجنة والنار الآن قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مددا طويلة، ما فيها أحد، والعبث محال على الله.
بتعبير آخر قالوا: وجودهما اليوم ولا جزاء نوع من العبث، والعبث محال على الله.
الرد عليهم:
أولا بإبطال أصلهم الفاسد: الذي وضعوا به شريعة للرب، وهو تحكيم عقولهم قبحا وحسنا، وقياس الله على خلقه.
ويقال ثانيا: ليستا معطلتين من قال إنهما معطلتان ليستا معطلتين، بل هما مشغولتان، فإن الروح تنعم في الجنة، أو تعذب في النار، قبل يوم القيامة، كحديث: (إنما مثل روح المؤمن كطائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة) فهذا صريح في دخول الروح الجنة، قبل يوم القيامة، وحديث البراء بن عازب في قصة العبد المؤمن والكافر، وأنه يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، أو يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها.
ويقال ثالثا في الرد عليهم: أن الاتعاظ والتذكر فيهما إذا كانتا موجودتين الآن أشد وأبلغ منه فيما إذا قيل: إن الله ينشؤهما يوم القيامة، فإن الإنسان إذا علم بوجود الجنة اجتهد في تحصيلها، وإذا علم بوجود النار اجتهد في الهرب والبعد منها، أكثر مما لو كانت غير موجودة.
ومن أدلتهم الشرعية، من شبههم الشرعية:
استدلوا بقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وجه الاستلال من الآيتين: أن كلا من هذين الآيتين، تدل على أن المخلوقات صائرة إلى الفناء، ولو كانت الجنة والنار مخلوقتان الآن، لوجب اضطرارا أن تفنيا يوم القيامة، وأن يهلك كل من فيهما، ويموت فيموت الحور العين التي في الجنة والوالدان، وقد أخبر الله -سبحانه- أن الدار دار خلود، ومن فيها مخلدون لا يموتون فيها، وخبر الله -سبحانه- لا يجوز عليه خلف، فدل على أنهما تخلقان يوم القيامة، هذه دليلهم.
أجيب عن الآيتين بأجوبة منها: أن المراد بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} مما كتب الله عليه الفناء، والهلاك هالك وأما الجنة والنار، فخلقتا للبقاء لا للفناء، فلا يلزم من وجودهما الآن الفناء يوم القيامة، وكذلك العرش لا يفنى، فإنه سقف الجنة، وقيل المراد كل شيء هالك إلا ملكه، وقيل المراد إلا ما أريد به وجهه، وقيل: إن الآية وردت للرد على الملائكة، وذلك أن الله تعالى أنزل كل من عليها، فإن فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء، فأخبر الله تعالى عن أهل السماء والأرض، أنهم يموتون فقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت، والذي حمل أهل السنة على تأويل هاتين الآيتين، إنما فعلوا ذلك توفيقا بينهما وبين النصوص المحكمة الدالة على بقاء الجنة وعلى بقاء النار، أيضا.
الدليل الثاني للمعتزلة: في أن الجنة والنار ليستا موجودتين الآن، استدلوا بحديث بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقيت إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ومثله حديث جابر - رضي الله عنه - عنه مرفوعا (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) .
ووجه الاستدلال: أن القيعان لشيء غير موجود، ولو كانت مخلوقة مفروغا منها لم تكن قيعانا، ولم يكن لهذا الغراس معنى، ولقال: طيبة الثمرة، ولم يقل: طيبة التربة.