ثانيا: استدلوا بقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}
ووجه الدلالة: أن هذا الاستنطاق والإشهاد، إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة، كما يؤيد ذلك الأحاديث الكثيرة التي تدل على أخذ الميثاق والإشهاد عليه، مما يدل على أن الله جعلهم أرواحا، ثم صورهم واستنطقهم، فتكلموا، فأخذ عليهم العهد والميثاق.
القول الثاني: إن الأرواح تأخر خلقها عن الأجساد، واستدل هؤلاء بما يأتي -أولا- قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} .
ووجه الدلالة: أن هذا الخطاب للإنسان الذي هو روح وبدن، فدل على أن جبلته مخلوقة بعد خلق الأبوين.
ثانيا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} .
وجه الدلالة: أن الآية صريحة في أن جملة النوع الإنساني أبدانا وأرواحا بعد خلق أصله، وهذا الدليل أصح من سابقه، وهذا القول الثاني هذا، هو الصواب أن الأرواح مخلوقة بعد الأجسام.
وأما أدلة الأولين القائلين بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد:
أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فإن الله -سبحانه وتعالى- رتب الأمر بالسجود لآدم على خلقنا وتصويرنا، المراد خلق أبينا آدم، وتصويره، وجه الخطاب لنا؛ لأن آدم -عليه الصلاة والسلام- هو أصل البشر، ونظيره قول الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} خطاب لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والمظلل عليه آباؤهم؛ لأن الأبناء لهم حكم الآباء.
وأما استدلالهم بآية الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، فيجاب عنه بأن الآية لا تدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا، وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم، ثم ردهم إلى أصلهم والذي صح إنما، هو إثبات القدر السابق، وتقسيمهم إلى شقي وسعيد.
وأما الآثار المذكورة، فلا تدل -أيضا- على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا، وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها -سبحانه وتعالى- صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا، ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد، ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قال ابن حزم نعم يجيء جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق إليه التقدير أولا، فيجيء خلق الخارج مطابقا للتقدير السابق.
ومن مباحث الروح: هل تموت الروح؟ أم الموت للبدن وحده؟
اختلف الناس في هذا فقالت طائفة: تموت الروح، وتذوق الموت، واستدلوا بما يأتي:
أولا: قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} والروح نفس، فلا بد أن تذوق الموت.
ثانيا: قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} قد دلت الآيتان على أنه لا يبقى إلا الله وحده، وهذا يدل على أن الروح تموت.
ثالثا: قالوا إذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت، وهذا الدليل العقلي.
رابعا: استدلوا بقول الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} وقوله -تعالى- عن أهل النار أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وجه الدلالة: الموتة الأولى هذه المشهودة، وهي للبدن والأخرى للروح.
خامسا: قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وهذا يدل على أن الأرواح تصعق عند النفخ، ويلزم من ذلك موتها.
القول الثاني: إن الأرواح لا تموت، وإنما تموت الأبدان، واستدلوا بما يأتي:
أولا: أن الأرواح خُلقت للبقاء، فلا تموت.
ثانيا: الحديث الدال على نعيم الروح وعذابها، بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواح، لانقطع عنها النعيم والعذاب كحديث، (إن مثل روح المؤمن الطائر، يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده، يوم يبعثه) وحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - وفيه قصة العبد الكافر، أنها تنتزع روحه نزعا شديدا، أو تخرج منها ريح خبيثة، وتطرح روحه إلى أرض الطرحات.