الثمرة الرابعة والمهمة: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فمرجئة الفقهاء من الأحناف يقولون: لا يجوز لك أن تستثني، حرام أن تقول أنا مؤمن إن شاء الله، لأنك تشك في إيمانك، تعرف نفسك أنك مصدق، فكيف تشك؟ فإذا قالوا: إن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهو شاك في إيمانه، من قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو شاك في إيمانه؛ لأن الإيمان هو التصديق أن تعرف نفسك أنك مصدق كما تعرف نفسك، أنك تحب الرسول، وأنك تبغض اليهود، هل تشك في إيمانك؟ هل تشك في الشيء الموجود؟ .
قالوا: لا يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله، فهو شاك في إيمانه، ويسمون أهل السنة الشكاكة، أما أهل السنة والجماعة، هم قالوا: المسألة فيها تفصيل، يجوز الاستثناء في الإيمان في بعض الأحوال، ولا يجوز في بعض الأحوال، فإذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده الشك في أصل إيمانه، وهو التصديق فهذا ممنوع.
أما إذا قال: إن شاء الله، وقصده الاستثناء راجع إلي الأعمال أعمال الإيمان، الواجبات كثيرة، والمحرمات كثيرة، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما أوجب الله عليه، ولا يجزم الإنسان بأنه ترك كل ما حرم الله عليه، ولا يزكي نفسه، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الأعمال متشبعة كثيرة، لا يجزم بأنه أدى كل ما عليه، بل هو محل للتقصير والنقص، ولا يجزم بأنه ترك كل ما حرم الله عليه، بل قد يقترف شيئا من ذلك، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه لا يزكي نفسه؛ ولأن أعمال الإيمان متشعبة، فلا بأس أن يقول: إن شاء الله، كذلك إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده تعليق الأمر بمشيئة الله للتبرك باسم الله، فلا حرج، وكذلك إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وأراد عدم علمه بالعاقبة، فلا بأس أما إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده الشك في أصل إيمانه، فهذا لا يجوز.
وبهذا يتبن أن الخلاف بين الأحناف والجمهور له ثمرة، كذلك أيضا مما يتعلق بالإيمان مسألة الإسلام أيضا الإسلام، والخلاف في مسماه، الناس اختلفوا في مسمى الإيمان على ثلاثة أقوال:
طائفة قالت: الإسلام هو الكلمة، أي الشهادتان، وهذا مروي عن الزهري، وبعض أهل السنة قالوا الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل، المذهب الثاني: طائفة قالوا الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا مروي عن بعض أهل السنة، ويتزعمهم البخاري، وهو أيضا ذهب إليه الخوارج والمعتزلة.
المذهب الثالث: أن الإسلام هو العمل والإيمان هو التصديق والإقرار، جعلوا الإسلام هو الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة، واستدلوا بحديث جبريل، والصواب في المسألة أن الإيمان والإسلام تختلف دلالتهما بحسب الإفراد والاقتران، فإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وإذا اجتمعتا، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، فإن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، ولما سأله عن الإيمان فسره بالأعمال الباطنة.
هذا هو الصواب أن الإسلام إذا أطلق وحده دخل فيه الإيمان، والإيمان إذا أطلق وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، أما الأدلة والمناقشات يأتي الكلام عليها إن شاء الله.
قلنا إن الناس في مسمى الإسلام لهم أقوال: القول الأول: من يقول: إن الإسلام هو الكلمة والإيمان هو العمل، يقول: مسمى الإسلام هو الكلمة، يعني الشهادتين، وهذا مروي عن الزهري وبعض أهل السنة، قالوا الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج هؤلاء بقول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قالوا فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه هو المقتصد، هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم.
والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه، ولكن وجهة نظر الزهري هي أن من أتي بالشهادتين صار مسلما، يتميز عن اليهود والنصارى، تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين. والزهري لم يرد أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها؛ فإن الزهري أجل من أن يخضع لذلك، ولهذا فإن أحمد -رحمه الله- في أحد أجوبته لم يجب بهذا، خوفا من أن يظن أن الإسلام ليس هو إلا الكلمة، وقد رد محمد بن نصر على من قال بهذا القول، فقال من زعم أن الإسلام هو الإقرار، وأن العمل ليس منه فقد خالف الكتاب والسنة، فإن النصوص كلها تدل على أن الأعمال من الإسلام كحديث جبريل، وفيه بني الإسلام على خمس، وذكر الأعمال الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج.