ثالثا: سلك أهل السنة مسلكا عدلا، هو الوسط، وهو الفرق بين الأقوال والقائل المعين، فالأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفى ما أثبته الله ما أثبته الرسول، أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه، أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال من قالها فهو كافر، وهذا عام لا يعين شخصا بعينه كالقول بخلق القرآن والوعيد في الظلم في النفس والأموال، فيقال من قال بخلق القرآن، فهو كافر، وأما الشخص المعين، فلا نشهد عليه أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر إلا بأمر تجوز معه الشهادة، كأن يعلم بأنه منافق، أو ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويستتاب فلا يتوب؛ لأن الحكم عليه بالكفر بدون دليل من أعظم البغي، من أعظم البغي أن نشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، كما بوب أبو داود في سننه باب النهي عن البغي، وذكر فيه قصة الرجلين المتواخيين من بني إسرائيل أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فالشهادة …إلى آخر الحديث، وأن المجتهد كان يأتي المذنب، ويقول: (اتق الله فرآه يوما على ذنب، فقال له: اتق الله فغضب المذنب، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا، فقال المجتهد: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال: من ذا الذي تألى علي ألا أغفر لفلان إني قد غفرت له، وأحبطت عملك، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) .
فالشهادة على المعين بالكفر من البغي. وثانيا: لأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له. وثالثا: يمكن أن يكون لم يبلغه ما وراء ذلك القول من النص من النصوص، فيكون معذورا لجهله بالنصوص.
ورابعا: يمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر الله للذي قال: (إذا مت فاسحقوني، ثم أذروني) ثم غفر الله له من خشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته أو شك في ذلك.
وهذا في الصحيحين قصة الرجل الذي من بني إسرائيل الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في البحر لما حضرته الوفاة جمع أهله وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يحرقوه ويذروه، وقال: (إن قدر الله علي ليعذبني عذابا شديدا) وفي بعض ألفاظ الحديث أنهم سحقوه وأحرقوه، وأنه قال: (ذروا بعضي في البحر وبعضي في البر، ففعلوا ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه، والبر فجمع ما فيه، فقال: قم فإذا هو قائم قال الله: ما حملك على ذلك، قال: خشيتك) قال: في الحديث (فما تلافاه بل رحمه) قال العلماء: إن هذا الرجل إنما فعل ذلك عن جهل ليس معاندا ولا مكذبا ولا متعنتا، ولكن فعله عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم، أما لو أنكر البعث أو أنكر ثم أيضا، هو لم ينكر البعث، بل هو معترف مقر بالبعث، ولم ينكر قدرة الله، لكن ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة وأحرق وسحق وذري في البحر والبر، إنه يفوت على الله، وإلا فهو معترف ومصدق بأنه لو ترك على حاله لبعثه الله.
وإن الله يقدر عليه، لكن هذه مسألة دقيقة خفيت عليه، ولهذا قال العلماء: وأن من أنكر أمرا دقيقا مثله يجهله؛ يكون معذور فلا يكفر في هذه الحالة، أما لو كان متعمدا أنكر البعث متعمدا عن عناد وعن تكذيب، فهذا لا شك في كفره، لكن هذا الرجل ما فعل ذلك عامدا ولا متعنتا، ولكن فعل ذلك عن جهل، وحمله عليه الخوف العظيم، فلهذا ما يحكم على الشخص المعين بالكفر إلا بعد التثبت ومعرفة حاله.
وخامسا: قد يكون حديث الإسلام، وحديث عهد بالإسلام، قد يكون نشأ في بادية بعيدة عن الإسلام، ولكن التوقف في أمر الآخرة في أهل البدع لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا، لمنع بدعته وأن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه، إذا كان مستحقا للقتل، ثم إذا كان القول في نفسه كفرا، قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، أما معتقد أهل السنة والجماعة، فكما سبق أنهم لا يكفرون بالكبائر كما يفعل الخوارج والمعتزلة أو الخوارج، ولا يخرجونهم من الإيمان كما تفعل الخوارج، ولا يقولون: إنه كامل الإيمان كما تقول المرجئة، بل يقولون: إنه مؤمن، يثبتون له أصل الإيمان، وينفون عنه مطلق الإيمان، يثبتون أصل الإيمان، وهو مطلق الإيمان، وينفون عنه الإيمان المطلق، فيقولوا مطلق الإيمان ثابت له، والإيمان المطلق منفي عنه، فلا بد من التقييد، فيقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن عاص، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وكذلك في النفي لا ينفون عنه الإيمان، ويسكتون، بل لا بد من التفصيل ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقا، كما هو الأدلة على هذا كثيرة من الكتاب والسنة والله أعلم.