الإرادة الكونية مرادفة للمشيئة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وأمَّا الإرادة الدينية الشرعية فهي مذكورة في قول الناس: هذا يفعل ما لا يريده الله يعني يفعل ما لا يحبه الله؛ ولهذا لو قال الإنسان: والله لأفعلن كذا -إن شاء الله- ثم لا يفعل لا يحل، حتى ولو كان الذي لم يفعله واجبا أو مستحبا.
لو قال: والله لأصلين الضحى -إن شاء الله- ثم لم يصل لا يحل يتعلق بالمشيئة لم يشأ الله أن يصلى.
لكن لو قال والله لأصلين الضحى إن أحب الله ثم لم يصل فعليه كفارة يمين؛ لأن الله يحب أن تصلى الضحى.
ففرق بين الإرادتين الكونية والقَدَرية، والله -سبحانه وتعالى- هدى أهل السنة والجماعة إلى ذلك.أما المعتزلة والقَدَرية ما عندهم إلا إرادة واحدة، وهى الإرادة الدينية الشرعية وعموا عن الإرادة الكونية فضلوا سواء السبيل. ما عندهم إلا إرادة كونية، إرادة دينية شرعية. والجبرية ما عندهم إلا إرادة واحدة، وهى الإرادة الكونية.
وأنكروا الإرادة الدينية الشرعية فضلوا، وأهل السنة والجماعة أخذوا نوعي الإرادة. القدرية والمعتزلة قالوا: ما عندنا إلا إرادة دينية شرعية واستدلوا بالنصوص التي أثبتت الإرادة الإرادة الشرعية، وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي تثبت الإرادة الكونية والجبرية من الجهمية والأشاعرة أثبتوا الإرادة الكونية واستدلوا بالنصوص، وأغمضوا أعينهم عن الأدلة التي تثبت الإرادة الدينية الشرعية.
وأهل السنة والجماعة -هداهم الله- أخذوا أدلة القدرية والمعتزلة التي يثبتوا فيها الإرادة الدينية الشرعية وقالوا: هذه حق، وأخذوا الأدلة التي أثبتها الجبرية في الإرادة الكونية وقالوا: هذه حق. وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتنافوا؛ يصدق بعضه بعضا، هذه حق، وهذه حق.
فالإرادة نوعان، -فهداهم الله-. فالإرادة الدينية والشرعية تتضمن المحبة والرضا، والإرادة الكونية القدرية هي المشيئة الشاملة؛ ولأن من قال: إنه ليس هناك إلا إرادة دينية وشرعية يلزموا ملازم، وقال لهم شبه، المعتزلة يقولون له قلنا: إن الله قدَّر المعاصي، وعذَّب عليها فصار غالبا ففرارا من ذلك أنكروا أن يكون الله أراد المعاصي فألزمهم أهل السنة بأنكم فررتم من شيء ووقعتم في شر مما فررتم منه، وقعتم في كونه يقع في ملك الله ما لا يريده تقع المعاصي والله لا يريدها، هذا شرط المذهب وأيضا يلزمكم على ذلك أن تكون إرادة العاصي والكافر تغلب إرادة الله، الله أراد من العاصي عند القدرية الإيمان وهو أراد الكفر، فوقعت إرادة العبد، ولم تقع إرادة الله، هذا من أباطيلهم.
أما أهل السنة فقالوا كل شيء في هذا الوجود أراده الله كونا وقَدَرا الكفر والمعاصي وغيرها، ولكن له حكمة. لله الحكمة البالغة في ذلك، لكنه لا يريد الكفر والمعاصي دينا وشرعا، ولا يحبها بل يبغضها وينهى عن ذلك، فالله تعالى له الحكمة البالغة، ومن حكمه وأسراره من إيجاد الكفر والمعاصي ظهور قدرة الله على إيجاد المتقابلات والمتضادات، فالكفر يقابل الإيمان، والمعصية تقابل الطاعة، كما أن الليل يقابل النهار.
ومنها ظهور العبوديات المتنوعة التي لولا تقدير الله للكفر والمعاصي لما حصلت المعاصي منها: انقسام الناس إلى شقي وسعيد، والى مؤمن وكافر؛ ولأن الله تعالى خلق للجنة أهلها، وخلق للنار أهلها، ووعد الجنة بأهل، ووعد النار بأهل.
وفى الحديث أن الله قال للجنة: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وأنت النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علَيَّ ملؤها) .
ومنها ظهور العبوديات التي يحبها الله كعبودية الجهاد في سبيل الله، وعبودية الولاء والبراء وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لو لم يكن هناك كفر ولا كفار ولا عصاة أين هذه العبودية؟ أين عبودية الجهاد في سبيل الله؟ أين عبودية الجهاد والصبر؟ أين عبودية الولاء والبراء؟ أين عبودية الحب في الله والبغض في الله؟ وهكذا.
هذه حِكَم وأسرار، الله تعالى قدرها لا لذاتها بل لما يترتب عليها من الحِكَم، وكون الكفر والمعاصي يحصلوا ضررا على الأشخاص الذين قدر عليهم هذا ضرر نسبي، ضرر نسبي لا يضاف إلى الله، والذي يضاف إلى الله إنما هو الخَلْق، والإيجاد، والتقديم.
وهذا الخلق والإيجاد مبني على الحكمة فلا يسمى شرا بالنسبة إلى الله، ولكن يسمى شرا بالنسبة إلى العبد الذي أضره وأساء إليه، أما بالنسبة إلى الله فلا يضاف إليه الذي يضاف إلى الخلق والإيجاد والتقدير، وهو مبني على الحكمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (والشر ليس إليك) .
فالمقصود أن قول المصنف -رحمه الله-: ولا يكون إلا ما يُرِيد يبين معتقدات أهل السنة والجماعة في إثبات الإرادة الكونية الشاملة والرَّد على المعتزلة الذين أنكروا الإرادة الكونية القدرية، وأنهم ضلوا كما أن الجبرية أنكروا الإرادة الشرعية، وضلوا في عدم إثباتهم للإرادة الدينية الشرعية.