الشبهة الأولى: قالوا: إن إثبات العلو يلزم منه أن يكون الله في جهة، وإذا كان في جهة كان محتاجا إلى تلك الجهة، وكان محدودا ومتحيزا، والله منزه عن ذلك منزه عن الجهة، ومنزه عن أن يحتاج إلى شيء، ومنزه عن كونه محدودا متحيزا، أجاب أهل الحق عن هذه الشبه بجوابين بجوابين، جواب إجمالي وجواب تفصيلي، الجواب الإجمالي: أن يقال: تنزيهكم الله عن الجهة إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف بالمظروف، فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى، فليس هو داخل المخلوقات، وإن أردتم بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات.
الجواب التفصيلي أولا: إن لفظ الجهة يراد به أمر موجود، ويراد به أمر معدوم، فإن أريد بالجهة، فإن أريد بالجهة أمر موجود جهة وجودية، وأن الله داخل السماوات، أو داخل العرش، فهذا باطل فإن الله لا يدخل في ذاته شيء من مخلوقاته، ولم يدخل في مخلوقاته شيء من ذاته، بل هو مباين للمخلوقات منفصل عنها، يعني إن أردتم بالجهة أمرا وجوديا العرش السماوات أو العرش، وأنه داخل فيها هذا باطل، وإن أردتم بالجهة أمرا عدميا، وأردتم بالعرش، ويراد بكونه فيها أنه عليها، كما قيل في قوله: إنه في السماء، أي: على السماء، وعلى هذا التقدير، فهو فوق الموجودات كلها، وهو غني عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها، فضلا عن أن يحتاج إليها.
فالخلاصة: أنه إن أريد بالجهة أمر وجودي، فالله ليس فيه شيء من مخلوقاته، وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فذاك ليس بشيء، ولا هو أمر وجودي حتى يقال: إنه محتاج إليه، أو غير محتاج إليه.
ثانيا: إنما يكون محتاجا إلى الجهة، أن يقال: إنما يكون محتاجا إلى الجهة لو كان في جهة مخلوقة تحويه وتحصره وتحيط به، أما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم لم يلزم ذلك، بل لا يلزم من كون المخلوق فوق مخلوق آخر أن يكون محتاجا إليه، فإن الله خلق هذا العالم بعضه فوق بعضه، ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس محتاجا إليها، والسحاب فوقها، وليس محتاجا إليها، والسماوات فوق السحاب، والهواء والأرض، وليست محتاجة إلى ذلك، والعرش فوق السماوات والأرض وليس محتاجا إليها، فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء سبحانه وتعالى محتاجا إلى مخلوقاته، لكونه فوقها عاليا عليها.
وثالثا: أن لفظ الجهة أن لفظ الجهة والحيز والحد والجسم والجوهر والعرض ألفاظ اصطلاحية فيها إجمال وإبهام، قد يراد بها معان متعددة، ولم ترد هذه الألفاظ في الكتاب والسنة بنفي ولا إثبات، ولا جاء عن أحد من سلف الأمة وأئمتها فيها نفي ولا إثبات، فالمعارضة بها ليست معارضة بدلالة شرعية، بل الأئمة الكبار أنكروا على المتكلمين وجعلوهم من أهل الكلام الباطل المبتدع، ومعروف موقف الإمام الشافعي رحمه الله وحكمه على أهل الكلام موقفه من أهل الكلام، وحكمه عليهم أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام، وصح عن إمام الأئمة في زمانه محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال: من لم يؤمن بأن الله فوق سمواته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وطرح على مذبلة.
الشبهة الثانية لنفاة العلو: هذه الشبهة جاءت على لسان الرازي أبو عبد الله الرازي، يقول أبو عبد الله الرازي في صياغة هذا الدليل مكون من مقدمتين ونتيجة يقول: لو كان الله تعالى في جهة فوق لكان سماء ولو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه وذلك محال فكونه في جهة فوق محال.
المقدمة الأولى: لو كان الله في لو كان الله تعالى في جهة فوق لكان سماء أثبت هذه المقدمة بدليلين أو بأمرين:
الأمر الأول أن الاشتقاق اللغوي للسماء من السمو وكل شيء سماك فهو سماء، وعرف القرآن متقدم عليه.
الثاني: لو كان الأمر الثاني الذي يثبت في هذه المقدمة يقول أبو عبد الله الرازي: لو كان الله فوق العرش؛ لكان من جلس في العرش ونظر إلى فوق لم يرى إلا نهاية ذات الله تعالى، فكان نسبة نهاية السطح الأخير من ذات الله إلى سكان العرش كنسبة السطح الأخير من السماوات إلى سكان الأرض، فثبت أنه لو كان فوق لكان سماء، أما المقدمة الثانية: ولو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه، دليلها أن السماء مخلوقة بنص القرآن قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وقال {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فلو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه، وذلك محال، فكونه في جهة فوق محال. أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذه الشبهة بقوله لما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء