وهكذا، فإن هذه القضية وإن كانت جافة على الصعيد الفلسفي فهي بدهية على الصعيد الحسي، لا تحتاج إلى برهان، لأنها من ضرورات الفطرة، لذا فإن القرآن الكريم يطرحها كقضية مسلمة لا تحتاج إلى استدلال، ولا تحتمل الجدال والمماراة، انظر إلى قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [1]. وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [2]. وهاك مثلاً آخر على ارتكاز هذه القضية في الفطرة، وضرورة الإحساس بها، فنحن نعلم جميعاً المطلب الأسمى الذي أفنى الفلاسفة حياتهم في سبيل الوصول إليه وتبين حقيقته فكل منهم سلك الطريق التي رآها مناسبة لإيصاله إلى بغيته، فوضع الأدلة، ووصل بها إلى ما أراد، فضلاً عن كونهم وصلوا إلى الإله الحق، أم أنهم وصلوا إلى مجرد وجود إله، أياً كان في تصورهم، إذ المهم أنهم وصلوا إلى حقيقة أحسوا بالضرورة إليها وعدم الاستغناء عنها فأدركوا أن لهذا الكون موجداً ثم إن هذه الغريزة الفطرية لم تكن قاصرة على البشر وحدهم بل كل مخلوق على هذه الأرض يحس بها ويهرع إليها، ولعل من أبرز الأدلة على ذلك قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام، التي ذكرها القرآن الكريم في قوله سبحانه حكاية عن الهدهد: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} - إلى قوله – {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [3]. [1] سورة العنكبوت آية: 51. [2] سورة الزخرف آية: 87. [3] سورة النمل آية: 22-26.