فهذا الأعرابي قد أدرك بفطرته السليمة التي فطره الله عليها أن هذه المخلوقات بما فيها من عجائب، ونظام محكم، من تعاقب الليل والنهار، ومن سماء مزينة بالنجوم والكواكب مسيرة بدقة متناهية لا يمكن أن توجد إلاّ بسبب أوجدها، وصيرها إلى ما هي فيه من إحكام وإتقان.
والتاريخ المصري القديم يحكي لنا قصة ذلك الرجل المغامر (سنوحى) الذي فر من مصر، وأخذ يتنقل في بلاد الشرق الأدنى وحظي فيها بضروب النعيم والشرف، ولكنه لم يطق فراق وطنه، فقد برح به، الحنين إلى بلاده، فاتخذ سبيله للعودة إليها، وفي الطريق لقي أهوالاً مروعة، فكان يناجي من يأخذ بيده، أنه لا يعرف من يناجيه ولكنه يثق في ضميره بأن هناك قوة مطلقة لا حدود لها، ولكن أين هي؟، وما كنهها؟ إنه لا يدري، ومع هذا فهو يهتف بها في أعماقه قائلاً: "ألا أيها الإله، أيا كنت، يا من قدرت على الفرار، أعدني إلى وطني"[1].
إنها صرخة الاستغاثة والنجدة، تنطلق من ضمير الإنسان إلى تلك القوة المطلقة، التي يؤمن بوجودها دون أن يراها.
والقرآن الكريم يحكي لنا وجود هذه الفطرة في قلوب المشركين فهم يلوذون بها في حال الشدة كما قال تعالى عنهم: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [2]. [1] قصة الحضارة، ول، ديورانت 2/111. [2] سورة يونس آية: 33.