يقول: قد كان في مصر من له مثل ما له، ولكنه قد قصر همه عن همه. ومثله لأشجع:
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكنّ معروفه أوسع
فأجود من جودهم بخله ... وأحمد من حمدهم ذمّه
وأشرفه من عيشهم موته ... وأنفع من وجدهم عدمه
يقول: موته خير من حياة ملوك مصر، وفقره أنفع من غناهم. وهذه الأبيات مبالغة في المدح.
وإنّ منيّته عنده ... لك الخمر سقيّه كرمه
يقول: إن كان أصل المنية، يسقى الناس كأسها، كما أن الكرم عنصر الخمر، فلما شرب كأس المنية صار كالخمر يسقى الكرم، فرد إليه ما خرج منه.
وقيل: معناه إن المنية كانت تطيب له؛ لشجاعته لا يكرهها، كما يطيب الكرم أن يسقى الخمر. والهاء في قوله سقيه وفي كرمه يعود إلى الخمرة، وذكره على معنى النبيذ، والنبيذ مذكر.
فذاك الّذي عبّه ماؤه ... وذاك الّذي ذاقه طعمه
عبه أي شربه: أي الخمر الذي ذاقه هو الموت.
يقول: هذا الموت، الذي شربه ماؤه، كما أن الخمر، ماء الكرم. وهذا الموت الذي ذاقه من طعم المنية، إنما كان طعمه.
وعلى الثاني: إذا سقى الكرم فالذي عبه هو ماؤه على الحقيقة من الذي ذاقه طعمه. أي هو موافق له غير مباين.
ومن ضاقت الأرض عن نفسه ... حرىً أن يضيق بها جسمه
يقول: ضاقت الأرض عن نفسه لبعد همته فلم تسعه، ومن كان كذلك في حال الحياة فهو حقيق بعد الموت أن تضيق بجسمه.
وقال أيضاً بعد خروجه من مدينة السلام إلى الكوفة وأنشدها بها، يذكر مسيره من مصر ويرثي فاتكاً، في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة:
حتّام نحن نساري النّجم في الظّلم ... وما سراه على خفٍّ ولا قدم؟
حتام: أي إلى متى، والأصل: حتى ما فحذف الألف من ما وجعل مع حتى بمنزلة اسم واحد، لكثرة الاستعمال، وكذلك: بم وفيم وعم وعلام هذا في الاستفهام. وفي الخبر لا يحذف الألف.
ونساري نفاعل من السري: أي نسري معه، وأراد بالنجم: النجوم. وروي: على ساق ولا قدم.
يقول: إلى متى نعارض النجوم في سيرها؛ ونسري معها، ونتعب نحن وهي لا تتعب؛ لأنها لا تسري على ساق ولا قدم، كما نسري نحن وإنما سيرها طبعها.
ولا يحسّ بأجفانٍ يحسّ بها ... فقد الرّقاد غريبٌ بات لم ينم
ولا يحس يعني النجم وفقد نصب لأنه مفعول يحس وفاعل يحس بها غريب.
يقول: إن النجوم لا تتألم بجهة السفر، ولا يصيبها ألم السهر، كما نتألم نحن بذلك، فكيف نقدر على مباراتها؟! وأراد بالغريب الذي بات لم ينم: نفسه وكل من كان مثله.
تسوّد الشّمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم
العذر جمع عذار، وهو جانب اللحية.
يقول: الشمس تسود ألوان وجوهنا البيض، ولا تغير بياض الشعر سواداً، وهو شكاية لأن بياض الوجه مما يشتهي بقاؤه، فلا تبقيه، وبياض الشعر مما يكره بقاؤه فتبقيه ولا تغيره!
وكان حالهما في الحكم واحدةً ... لو احتكمنا من الدّنيا إلى حكم
يقول: كان الواجب في مقتضى القياس أن تسود الشمس الأبيض من شعورنا، كما سودت وجوهنا البيض؛ لأن كل واحد منهما استوى في البياض.
ونترك الماء لا ينفكّ من سفرٍ ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم
يقول: كما أدمنا السفر ولم ننفك منه، كذلك تركنا الماء غير منفك عن السفر؛ لأنا كنا نسافر في المفاوز المقفرة، فنحتاج إلى حمل الماء فنغترفه من أعقاب السحاب، فنجعله في الأداوي والمزاود، ونحمله مع أنفسنا، فلم يخل الماء أيضا من السفر؛ لأنه مرةً يسير في السحاب، ثم بعده يسير في المزاود.
وإنما نسب سير الماء الذي في السحاب إليهم في قوله: ونترك الماء لا ينفك من سفر وإن كان سيره فيه ليس من جهتهم؛ لأنه لما كان هذا السير، والسير في المزاود واحد، هما عقيب صاحبه وسببا عنه. جريا مجرى الفعل الواحد؛ لأن السبب الذي أدى إلى إدامة السير هو فعلهم: الذي هو صب الماء في المزاود، فلولا هذا لم يدم سير الماء.
لا أبغض العيس لكنّي وقيت بها ... قلبي من الحزن أو جسمي من السّقم
يقول: إتعابي العيس في السير ليس لأجل أني أبغضها، ولكني وقيت بالعيس قلبي من الحزن، وجسمي من المرض، حين كنت بمصر.
طردت من مصر أيديها بأرجلها ... حتّى مرقن بنا من جوش والعلم