وإذا رآه بعض غلمان أبيه أو غيرهم أسرع هاربا لئلا يقال: إنه كلمه! فمن كلمة أتلفه الأسود، فلما كبر الصبي وتبين ما هو فيه، وجعل يبوح بما في نفسه في بعض الأوقات على الشراب، وكل من معه عين عليه، فقدم الأسود فسقاه سماً فقتله، وخلت له مصر وهان عليه أخوه الأصغر وغيره.
فلما ورد كتاب الأسود على أبي الطيب بالرملة، لم يمكنه إلا المسير إليه، وظن أنه لا يسومه سوم غيره. من أخذ ماله، وإضعاف حاله، ومنعه من التصرف في نفسه. وهذه فعال الأسود بكل حر له محل، يحتال عليه بالمكاتبة والمواعيد الكاذبة، حتى يصير إليه، فإذا حصل عنده أخذ عبيده وخيله وأضعفه عن الحركة، ومنعه منها، وبقي مطرحا يشكو إليه ويبكي بين يديه ولا يعينه على المقام، ولا يأذن له في الرحيل، وإن رحل عن غير إذنه غرقه في النيل، ولا يصفو قلبه إلا لعبد، كأنه يطلب الأحرار بحقد.
فلما قدم عليه أبو الطيب اخلى له داراً ووكل به، وأظهر التهمة له، وطالبه بمدحه، وخلع عليه، وحمل إليه آلافاً من الدراهم وغيرها.
فقال أبو الطيب يمدحه لما وفد عليه في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاث مئة ويعرض بسيف الدولة
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
الباء في بك زائدة، والتقدير: كفاك داءً، وليست هذه الباء مثلها في قوله تعالى: " وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدا " " وكَفَى بنَا حَاسِبين " لأن، ها هنا زيدت الباء على المفعول، وفي الآية زيدت على الفاعل، والفاعل في البيت قوله: أن ترى وداءً نصب على التمييز. والأماني أصلها التثقيل، والتخفيف جائز.
يقول: كفاك من الداء وأذية الزمان، ما تستشفى منه بالموت! وما تتمنى معه الموت! إذ الموت غاية الشدائد، فإذا تمناه المرء فقد تمنى كل شدة.
تمنّيتها لمّا تمنّيت أن ترى ... صديقاً فأعيا، أو عدوّاً مداجيا
يقول: تمنيت الموت، لما تمنيت أن ترى صديقاً مخلصاً في صداقته، أو عدوا مساتراً للعداوة فأعيا عليك وجود ذلك، فلما لم تجد إلا صديقاً غير مخلص وجدت عدوا مظهراً للعداوة، تمنيت الموت.
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّةٍ ... فلا تستعدّنّ الحسام اليمانيا
استعد وأعد بمعنىً.
يقول: إذا رضيت بالذل، وصبرت على الضيم، فلا معنى لاستعداد السيف، لأن السيف يراد لدفع الضيم. ومثله لأبي العتاهية:
فصغ ما كنت حلّي ... ت به سيفك خلخالا
فما تصنع بالسي ... ف إذا لم تك قتّالا؟
ومثله لعبد الرحمن بن دارة:
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا بغايا للخلوق وللكحل
وبيعوا الرّدينيّات بالخمر واقعدوا ... على الذّل وابتاعو المغازل بالنّبل
ولا تستطيلنّ الرّماح لغارةٍ ... ولا تستجيدنّ العتاق المذاكيا
لا تستطيلن: أي لا تطلب طولها، وكذلك لا تستجيدن: أي لا تطلب جودها.
يقول: إذا رضيت بالذل فلا تطلب الرمح الطويل، والخيل الجياد، فإنك لا تحتاج إليها بعد أن رضيت بالذل واحتمال الضيم.
فما ينفع الأسد الحياء من الطّوى ... ولا تتّقي حتّى تكون ضواريا
يقول: إن الحياء لا ينفع الأسد من الجوع ولا يشبعه، ولا يخشى منه إلا إذا كان ضارياً جريئاً.
يعني: أن الإنسان إنما يبلغ مراده إذا اطرح قناع الحياء عن وجهه، واتكل على إقدامه.
حببتك قلبي قبل حبّك من نأى ... وقد كان غدّاراً فكن لي وافيا
حببته وأحببته: لغتان: وقلبيك منادى، أي يا قلبي، ومن في موضع نصب بالمصدر الذي هو حبك.
يقول: يا قلبي أحببتك قبل أن تحب الحبيب الذي نأى عنك وغدر بك، فأنكرت غدره فلا تصنع معي من الغدر مثل ما صنع بك حبيبك، فتكون قد فعلت ما كرهته من غيرك.
وجعل حنين قلبه إلى الحبيب غدراً منه، لأنه يؤلمه ويؤدي إلى تلفه، فتقع المفارقة بينه وبين قلبه! وهي التي ذاقها من حبيبه. وهذا تعريض منه بسيف الدولة.
وأعلم أنّ البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
يقول: يا قلبي، أعلم أن البين يحوجك إلى الشكوى، ويؤثر فيك، وإن فعلت ذلك تبرأت منك، ونفيت أن تكون قلبي، لأنك غدرت بي.
فإنّ دموع العين غدرٌ بربّها ... إذا كنّ إثر الغادرين جواريا
روى: غدراً فيكون مصدراً في معنى غادر فلا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث، وروى غدر وهو جمع غدور.