وقيل على الثاني: استعمال الحديد معك لا ينفع ولا حاجة إلى الزند، مع أنك توري، ولذلك لا يلقاك أحد إلا من جعل سيفه من نفاق، وتصنع الاستماح منك دون المجاهرة بعداوتك.
إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
يقول: هؤلاء الذين يداجونك بالعداوة، ألفوا هذه الدنيا وتنسم هذا الهواء، ومن ألف الدنيا واستطاب حياتها، فهو يختار ما يؤدي إلى القيام بأمرها، فإلفهم لها أوقع في أنفسهم: أن الموت مر المذاق.
والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ ... والأسى لا يكون بعد الفراق
يؤكد المعنى الذي ذكره. يقول: الجزع من الموت قبل حلوله عجز وجبن، فلا معنى له والروح بعد لم تفارق، فإذا فارقت الروح بطل الجسم وزالت حياته وبطل حسه، فإذا ليس للجزع من الموت وجه.
كم ثراءٍ فرجت بالرمح عنه ... كان من بخل أهله في وثاق
الثراء والثروة: المال. والوثاق: بالفتح ما يوثق به. يقول: كم مالٍ كان في بيت بخيل قتلته واحتويت عليه وفرقته إلى أهله، وكان عندهم في وثاق البخل، ففرجت عنه وفككته من وثاقه.
والغنى في يد اللئيم قبيحٌ ... قدر قبح الكريم في الإملاق
الإملاق: الفقر.
يقول: الغنى لا يحسن في يد البخيل إذ لا يفرح أحد به ولا يظهر عليه، فهو في القبح في اللئيم، كالفقر بالكريم.
ليس قولي في شمس فعلك كالشم ... س ولكن في الشمس كالإشراق
يقول: ليس ثنائي عليك. وضع لشمس فعلك كالشمس، لكنه دليل على فعلك، وإذاعة له وتسيير له في البلاد، كالإشراق للشمس إذ لولاه ما كانت الشمس تشمل العالم بضوئها، فكذلك لولا ثنائي لكاد لا ينشر ذكره.
وقيل: معناه إن قولي ليس نظيراً لفعلك، ولكنه صادر عنه، كانتشار الضوء عن الشمس، ففعلك شمس وثنائي إشراقها.
شاعر المجد خدنه شاعر اللف ... ظ كلانا رب المعاني الدقاق
الخدن: الصديق، واراد به نفسه. وجعله خدناً تخصصاً به وتحققاً بمودته. وفيه ضرب من الكير وتطاول العنق! يقول: هو شاعر المجد يبدي فيه البدائع والغرائب، وأنا شاعر اللفظ، فكل واحد منا بديع في فنه، ويغرب في شعره، ويأتي بدقائق المعاني التي يعجز عنها غيره، فالملوك عجزوا عن مجده، والشعراء عجزوا عن شعري وهذا من قول البحتري:
غربت خلائقه وأغرب شاعرٌ ... فيه فأبدع مغربٌ في مغرب
لم تزل تسمع المديح ولكن ... صهال الجياد غير النهاق
يقول: كنت أبداً تسمع المديح، ولكن لم يمدحك أحد مثلي، فشعري كصهيل الفرس الجواد، وشعر غيري كنهيق الحمار!
ليت لي مثل جد ذا الدهر في الأد ... هر أو رزقه من الأرزاق
أي: ليت حظي من السعادة مثل حظ هذا الدهر الذي أنت فيه في الأدهر، وليتني رزقت مثل ما رزق هذا الدهر.
أنت فيه وكان كل زمانٍ ... يشتهي بعض ذا على الخلاق
معناه: أنت في هذا الزمان، فكل زمان مضى قبله يشتهي أن يكون حصل له بعض ما حصل لهذا الزمان، لكونك فيه ومثله لمسلم:
الدهر يغبط أولاه أواخره ... إذا لم يكن كان في أعصاره الأول
ودخل عليه يوماً وهو على الشراب وبيده بطيخة من ند في غشاء من خيرزان، على رأسها قلادة لؤلؤ، فحياه بها وقال: أي شيء تشبه هذه فقال:
وبنيةٍ من خيزرانٍ ضمنت ... بطيخةً نبتت بنارٍ في يد
كل ما يبني: فهو بنية وبناء.
يقول: هذه بنية من خيزران، جعلت فيها بطيخة نبتت من نار في يد صانعها فنباتها من النار يخالف سائر البطيخ.
نظم الأمير لها قلادة لؤلؤٍ ... كفعاله وكلامه في المشهد
يقول: نظم الأمير في هذه البطيخة قلادة من لؤلؤ، وتشبه هذه القلادة فعله وكلامه في المجلس.
كالكأس باشرها المزاج فأبرزت ... زبداً يدور على شرابٍ أسود
شبه هذه البطيخة بكأس فيه شراب أسود، والقلادة التي عليها بالزبد. الذي يعلو الشراب إذا مزج.
وقال فيها أيضاً ارتجالاً يصف البطيخة:
وسوداء منظومٌ عليها لآلىٌ ... لها صورة البطيخ وهي من الند
كأن بقايا عنبرٍ فوق رأسها ... طلوع رواعي الشيب في الشعر الجعد
الواو بمعنى رب. يقول: إنها في صورة البطيخ، لكنها من الند! وقوله: رواعي: جمع راعية، وهي أول شعرة تبيض وقيل: ما انتشر منه في الرأس. وقيل: مقلوبة من رائعة، لأنها تروع.