وفي هذه الفترة كان الخليفة بالمدينة يتميز غيظًا من إبطاء الفتح، الذي كان يتنسم أنباءه يومًا إثر يوم، وراح يعلل لصحابته إبطاء الفتح بما أحدث المسلمون، وبما أغرتهم به خيرات مصر من تعلق بالدنيا وشره إلى نعيمها، فكتب إلى عمرو كتابًا ضمنه هذا ودعاه فيه إلى أن يحض الجند، وأن يرغبهم في الصبر وحسن النية، وأن يقدم الأربعة الذين عد كل واحد منهم بألف رجل حينما أمده بهم.
ورأ عمرو الكتاب في جنده، ودعا بالأربعة الذي ذكروا فقدمهم، وأمر الناس أن يتطهروا وأن يصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ويسألوه النصر على عدوهم، ثم دعا بعبادة بن الصامت فعقد له وأولاه قتال الروم، ثم انطلق إلى بابليون، يدير حركة بعوثه إلى أقاليم الدلتا والصعيد.
وفتح الله الإسكندرية على يدي عبادة ودحر الروم، وسارع المقوقس إلى عمرو في بابليون؛ ليعقد معه معاهدة الإسكندرية التي تعرف بمعاهدة بابليون الثانية؛ تمييزًا لها عن معاهدة بابليون الأولى[1]. وقد نص فيها على أن يرجع المسلمون عامهم هذا حتى يرحل عنها جيش الروم، خلال أحد عشر شهرًا تنتهي في أواخر سنة 21هـ.
ولما دخل المسلمون الإسكندرية ذهلوا لروعة عمارتها ومدارسها ومكاتبها وقبابها ومنارتها ومسلتها ومعابدها[2]، وأخذوا بعد ذلك يستقرون بمصر، ويبنون الفسطاط والخطط، ويرسلون البعوث لإتمام فتح مصر جميعها. وأخذوا كذلك في حفر قناة تراجان، وما تمضي ثلاث سنوات حتى يحيك قسطنطين بن هرقل مؤامرة تستهدف استنفاذ مصر، بقيادة "منويل" الخصي الأرمني، الذي نزل الإسكندرية في أسطول بيزنطي كبير، فاحتل الإسكندرية ونكل بالمسلمين تنكيلًا. ويضطر عثمان بن عفان خليفة المسلمين حينذاك إلى أن يصلح الأمر بما صلح به أوله، فاستدعى عمرو بن العاص ذلك الفاتح الرائد؛ ليعين والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح لدرايته بحرب الروم، بناء على رغبة أهل مصر[3]. [1] سيدة إسماعيل الكاشف، مصر في فجر الإسلام ص14. [2] بتلر ص319. [3] البلاذري ص233.