نام کتاب : خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني نویسنده : محمد محمد أبو موسى جلد : 1 صفحه : 356
في بدء الأمر شيئا غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد، ومعلوم أنه لو أظهر المفعول، فقال: وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم، لجاز أن يوقع في وهم السامع قبل أن يجيء إلى قوله: إلى العظم أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد، ولم ينته إلى ما يلي العظم، فلما كان كذلك ترك ذكر اللحم، وأسقطه من اللفظ ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف الفهم، ويتصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم"، تأمل قوله: إن من حذق الشاعر إلى آخره؛ لأنه أصل من أصول بلاغة البيان.
ومن إشارات الحذف اللطيفة قوله -تعالى- حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 1، قالوا: المراد أرني ذاتك ولكنه حذف، قال الخطيب: إن الحذف هنا للاختصار ويمكن أن يقال فيه: إن سيدنا موسى لم يطلب من ربه أن يريه ذاته طلبا صريحا مشكوفا، فإن في هذا شيئا لا يليق بالجلال، وإنما قال في أمل ورجاء وأدب وحياء: "رب أرني"، وأمسك ليفيد قصيده بدون لفظ ينص صراحة عليه، وهكذا القول فيه هذه المقامات الربانية، وعند طلب مثل هذه الأمور العظيمة ينبغي أن يكون تلويحا وخلسا، وشيء آخر في هذا الحذف هو تلك الفخامة والهيبة؛ لأن الذات الجليلة لا تقع عليها الرؤية المحيطة كما تقع على الأشياء، وإنما هي تجليات فلم يتمكن لفظ الرؤية "أرني" من الذات هكذا ظاهرًا؛ لأن ذلك مما لا يكون، النفس الإنسانية لا تطيق من رؤية الله، وتجلياته إلا بمقدار ما يهيئها الله له، انظر إلى قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} 2، إذن سيدنا موسى عليه السلام لم تتح له الرؤية، ولم يقع أيضًا التجلي عليه، وإنما تجلى ربه للجبل فجعله دكا، وكان من موسى ما كان، ثم شيء آخر في قوله: "أرني" أليس معناه اجعلني أرى أي صيرني إلى حالة من التهيئ
1، 2 الأعراف: 143.
نام کتاب : خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني نویسنده : محمد محمد أبو موسى جلد : 1 صفحه : 356