162 قال أبو علي: أخبرني أبو عبد الله محمد بن أحمد البزاز، قال حدثني إبراهيم بن موسى مولى بني هاشم عن عبد الله بن عمرو قال أخبرني أبي عن مسافر القرفساني، قال: "ورد على العتابي -وهو بحلب- عشرة من الكتاب من أهل قنسرين، فرأوا في يده رقعة ينظر فيها، فقال: (أنظرتم إلى الرقعة التي كانت في يدي؟ قالوا: نعم قال: لقد سلك صاحبها وادياً ما سلكه غيره، فلله دره" وكانت فيها أبيات أبي نواس وهي كامل:
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكاً عليك طويل
وبعدها كامل:
أحللت قلبي من هواك محلة ... ما حلها المشروب والمأكول
ألطف بيت تخلص به شاعر من وصف إلى مدح أو ذم
163 قال أبو علي: من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه، أن يكون ممتزجاً بما بعده من مدح، أو ذم، أو غيرهما غير منفصل منه. فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر، أو باينه في صحة التركيب، غادر بالجسم عاهة، تتخون محاسنه، وتعفى معالم جماله، ووجدت حذاق الشعراء، وأرباب الصناعة من المحدثين، محترسين من مثل هذه الحال، احتراساً يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان، حتى يقع الاتصال، ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة، لا ينفصل جزء منها عن جزء -كقول مسلم بن الوليد، وهو من بارع التخلص طويل:
أجدك هل تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر
نصبت لها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر
وقول بكر بن النطاح متقارب:
ودوية خلقت للسراب ... فأمواجه بيها ترزخر
كأن حنيفة تحميهم ... فأليتهم خشن أوزر وهذا مذهب اختص به المحدثون، لتوقد خواطرهم، ولطف أفكارهم، واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم، فكأنه مذهب سهلوا حزنه، ونهجوا رسمه، وأما الفحول الأوائل، ومن تلاهم من المخضرمين، والإسلاميين، فمذهبهم المتعالم فيه: "عد عن كذا، إلى كذا" وقصارى كل رجل منهم، وصف ناقته بالعتق، والكرم، والنجابة، والنجاء، وأنه امتطاها وادرع عليها جلباب ليل، وتجاوز بها {بها جوف} نتوفة إلى الممدوح. وهذه الطريق المهيع، والمحجة اللهجم وربما اتفق لأحدهم معنى لطيف تخلص به إلى غرضه ولم يتعمده إلا أن طبعه السليم ساقه إليه، وصرفه المستقيم أضاء له مناره وأوقد له باليفاع ناره في ال شعر،.
164 فمن أحسن تخلص تخلص به شاعر إلى معتمده قول النابغة الذبياني طويل:
فاسبل منيعبرة فرددتها ... على النحر، منها مستهل ودامع
على حين عاتبت تالمشيب على الصبا ... وقلت: ألما أصح والشيب وازع
وقد حال منهم دون ذلك شاغل ... مكان الشغاف تبتغينه الأصابع
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس والوضاجع
فهذا كلام متناسج تقتضي أوائله أواخره، ولا يتميز منه شيء، عن شيء، ثم اعترض ذلك من وصف حاله، عند علمه بوعيده، وتشبيهه نفسه بالسليم من ذكر الحية، ووصفها بسوء سمها، وتناذره الرقية إياها، ما أبدع فيه كل الإبداع، فقال:
فبت كأني عاورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من نوح العشاء سليمها ... بحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً وطوراً تراجع
ثم عاد عاطفاً كلامه على ما تقدم من تخلصه فقال:
وأخبرت ... خير الناس
أنك لمتني
وتلك التي تستك منها أمسك
مخافة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك راح
165 فلو توصل إلى ذلك بعض صناع المحدثين الحذاق والذين واصلوا تفتيش المعاني، وفتحوا أبواب البديع، واجتنبوا ثمرة الآداب، وفحوا زهر الكلام، لكان معجزاً عيباً فكيف بجهل بدوي، إنما يغترف من قليب قلبه، ويستمد عفو هاجشه.
166- ومن التخلص اللطيف إلى الخروج، قول حسان بن ثابت كامل:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
ويروى "والرماح تنوشهم". فهذا تخلص إلى الهجاء لطيف، ومثله قل أبي الشمقمق متقارب: